الرخام من بلاد الروم فكان يشتريه منهم بالسكر وزناً بوزن وكان المنصور قد اتخذ معاصير للسكر ببلاد حاحة وشوشاوة وغيرهما وأما جبسه وجيره وباقي أنقاضه فإنها جمعت من كل ناحية حتى إذا وجدت بطاقة فيها أن فلاناً دفع صاعاً من جير حمله له من تينبكت وظف عليه في عمار الناس وكان المنصور مع ذلك يحسن للإجراء غاية الإحسان ويجزل صلة المعلمين بالبناء ويوسع عليهم في العطاء ويقوم بمؤنة أولادهم كي لا تتشوق نفوسهم وتتشعب أنظارهم.
وهذا البديع دار مربعة الشكل وفي كل جهة منها قبة رائعة الهيئة واحتف بها مصانع أخر من قباب وقصور وديار فعظم بذلك بناؤه وطالت مسافته ولا شك أن هذا البديع أحسن المباني وأعظم المصانع يقصر عنه شعب بوان وينسى ذكره غمدان ويبخس الزهراء والزاهرة ويزري بقباب الشام وأهرام القاهرة وفيه من الرخام المجزع والمرمر الأبيض المفضض والأسود وكل رخامة طلي رأسها بالذهب الذائب وموه بالنصار الصافي وفرشت أرضه بالرخام العجيب النحت الصافي البشرة وجعل في أضعاف ذلك الزلاج المتنوع التلوين حتى كأنه خمائل الزهر أوبرد موش وأما سقوفه فتجسم فيها الذهب وطليت الجدارات به مع بريق نقشه ورائق الرقم يخالص الجبس فتكاملت فيه المحاسن وأجرى بين قبابه ماء غير آسن وبالجملة فإن هذا البديع من المباني المتناهية البهاء والإشراق المباهية لزوار العراق ومن المصانع التي هي جنة الدنيا وفتنة المحيا ومنتهى الوصف وموقف السرور والقصف وفي ذلك قيل:
كل قصر بعد البديع يذم ... فيه طاب الجني وفيه يشم
منظر رائق وماء نمير ... وثرى عاطر وقصر أشم
إن مراكشاً به قد تناهت ... مفخراً فهي للعلا الدهر تسمو
وبه من الأشعار المرقومة في الأستار والأبيات المنقوشة في الجهات على الخشب والزليج والجبص ما يسر الناظر ويروق المتأمل ويبهر العقول وعلى كل قبة ما يناسبها وفي بعض القباب مفاخرة على لسانها لمقابلتها فمن ذلك ما نقش خارج القبة الخمسينية لأن فيها خمسين ذراعاً بالعمل من إنشاء أبي فارس عبد العزيز ألفشتالي على لسان القبة المذكورة:
سموت فخر البدر دوني وانحطا ... وأصبح قرص الشمس في أذني قرطا