وبعد فلا تدخل المدن الشّاميّة في طور العمران الحقيقي إلا إذا جعل مصوَّرٌ عامّ لكل مدينةٍ لا يسمح لأحدٍ أن يبني إلا بحسب ما تقرر. وان يشتغل المعول زمناً في هدم الحلل والأحياء والأزقة الضيقة والدور الكئيبة مع ملاحظة السكّان وحالة البلاد واتباع سنّة التدريج وأن لا يبني الباني داره ولا حانوته ولا مصنعه إلا بحسب الطراز الذي ترسمه البلديات والأبعاد التي تعيّنها للجادّات
ومن الغريب أنّ جميع مدن سورية ليس لها خريطةٌ سوى مدينة حلب وما عداها فيبني البانون فيها بحسب رغائبهم يختارون الطراز الذي يروقهم ويلتئم مع مصلحتهم المؤقتة ويبعدون عن الشارع أو لا ينحرفون عنه بحسب ذممهم وقلّ أن شاهدنا بلداًً من بلادنا أحسّ بسلطة مهندسي مجالس البلديّة عليه وكثيراً ما يعينه المهندس على ضلالته لقاء عرضٍ قليلٍ يبتاع به ذمّته. فإذا وفِّق رجال الإدارة إلى تتميم ما بدأوا به من هذا القبيل لا يمضي نصف قرنٍ على الأكثر حتى تصبح مدن الشّام بل قصباتها الصغرى عامرةٌ مستوفاةٌ شروط الذّوق والراحة وافيةً بالمراد من حيث الصّحّة والغناء
ونشير على كلّ من تحدّثه نفسه بإقامة دارٍ أو حانوتٍ أو مصنعٍ أو قهوةٍ أو مسرح أو فرنٍ أو معملٍ أن لا يشرع بعمله قبل أن يفزع إلى مهندسٍ ماهرٍ ولا يتطلّب من أرباب هذا ألفنّ الذي يرتضي بالقليل بل يؤثر الذي يتناول أجرةً جيدةً ويعمل ويعمل عملاً يماثله وبذلك يتوفّر عليه ماله وتبقى بنايته القرون قائمةً تتوارثها أعقابه من بعده وكلما طال عليها العهد حلت وأصبحت لها قيمةٌ وأصبحت لها قيمةٌ فيكون كمن استرخص طبيباً وطبّ الأرواح كطبّ الأشباح متلازمان ولولاهما لما عاش إنسانٌ ولا حيوانٌ ولخرب العمران وابذعر السكان. إنّ بيوت مهاجرة الإسرئيليين في يافا وجاليةالألمانيين في حيفا أعظم معلّمٍ لمهندسينا وأهل الأملاك فينا ينظرون كيف أنشأ بانوها من ألفقر غنىً ومن العدم راحةً وجمالاً وزخرفاً ورفاهيّةً.