الزرع، ويدر الضرع، ولو حسن فيها نزع ألفضول من العقول، وأنيرت بأنوار علوم المدينة على الأصول، فتعهد أبناؤها بالتربية كما تربى عندهم الرياض والحقول، وتوقى مما يؤذي الزروع والثمار والبقول، لكانت خير بقعة يسكنها ساكن في الحياة، ولصلح عليها قول من قال طوبى لمن كان له في أرضها مربط شاة.
سلام غوطة دمشق كلما غردت اطيارك فلك على المشاعر سجع الحمام واليمام، وهديل العندليب والهزاز وتغريد العصفور والشحرور، كيف لا تستهوين النفس وتعيق الغربان ونقيق الضفادع إذا رددهما الصدى في لياليك يفسرهما القلب بمعان لا تفهم منها في الكور الأخرى، كما يفسر في النهار ثغاء الماعز والحملان، وخوار البقر وجؤار الثيران.
فسلام وألف سلام عليك يا كريمة الطبع، وبديعة الصنع، وعريقة المجد، ونبيلة الجد والجد، وزكية العرق ن وهنية الزرق، وطيبة النجار، والمحسنة للأهل والجار، ففي مغانيك تصفو النفس من كدورات هذه الحضارة الملفقة، وتنجو من سماع فظائع الإنسانية المعذبة، وبقليلك - وإن كان قليلك لا يقال له قليل، يغطبط الإنسان، ولا يتكالب على حطام الدنيا تكالب الضاري من الحيوان، وبتطلع الزهرة ربة الجمال من منافذ أفقك توحي إلى الخيال روحاً من عندها فتفيض القرائح وترق العواطف، وفي منبسط صعيدك الطيب يسلو الخاطر همومه وتطرب الحواس، من دون ما كاس ولا نغمة أوتار وأجراس.
وفي هذا الريف العجيب تقرأ سور العدل الآلهي في تقسيم الأرزاق فلا فقر مدقح ولا غنى مفرط، ويعيش القائمون على تعهده عيشاً متشابهاً ألا قليلاً ن يغتني أفراد منهم بذكائهم واقتصادهم، فلا ترى في فقرائهم سلاطة الجياع أرباب النهم، ولا في أغنيائهم قسوة قلوب أهل الرفاهية والنعم، فسبحان من وفر للغوطة قسطها من الغنى والغناء، وضاعف لها حظها من الجمال والإعتدال، وأجزل لها عناصرها الحيوية فزادها كرماً لجديدين نماء إلى نماء.
وداع الشام
عنيت بشرق الأرض قدماً وغربها ... أجوب في آفاقها وأسيرها
فلم أر مثل الشام دلر إقامة ... لراح أغاديها وكأس أديرها