ذلك بالسقيا لهم ولأيامهم شأن كل من اطلع على يسير من تاريخهم. فداخلني إذ ذاك من السرور ما الله به عليم لأنها طبقات رجال أكل الدهر على أخبارهم وشرب حتى أصبحوا نسياً منسياً لكنها لا تقف بالقارئ على أكثر من تعداد أسماء لا يعرف من حالها شيئاً (أعني المغنين) فرأيت إن أشرحها شرحاً يفسر من محاسنها ويكشف النقاب عن فضارتها بعد أن فاتحت بذلك أحد أركان العلم والأدب فما كان منه إلا أن نفث في روعي روحاً أججت فاتر الهمة فعند ذلك مضيت في العمل فما زلت التقت من كل كتاب نادرة وطومار نكتة شاردة أضم بعضها إلى بعض وأقرب المسافات بينها بالمناسبات (لتفرق ذلك في مبعثرات الكتب وعدم تدوينه في كتاب على حدة فيما وصلنا من الأسفار قليل ما هي) حتى أقمعته وأنا على ثقة من أني لم أبلغه درجة الكمال لكان جهد المقل وغاية المملق وتتميماً للفائدة صدرته بلمعة ذكرت فيها (تاريخ الغناء، وأول من دونه، وتأثيره، وآلاته، ومن دونت له صنعة فيه من الخلفاء وأولادهم، احتج به في جوازه، وتاريخ المغنين، ومنزلتهم، وترجمة صاحب القصيدة) وترجمة الشرح (بجمهرة المغنين).
لمعة في تاريخ الغناء والمغنين
تاريخ الغناء
الغناء قديم وجد مع النفس فهو تربها الذي تأنس به وصاحبها الحميم تفزع إليه وقت الشدائد وتستعين به على تنمية ما تميل إليه من حزن أو سرور ولم يكن الغناء في فابر العصور على ما نعهده اليوم من ضبط القواعد والروابط بل كان بسيطاً ساذجاً وأول من جعل له قواعد وضوابط على ما قيل بطليموس وكان أول من غنى في العرب لعاد يقال لهما الجرادتان ومن غنائهما
ألا يا قيين ويحك قم وهينم ... لعل الله يصبحنا غماما
وهكذا كان غناء العرب في جاهليتهم ساذجاً كتغني الحداة في حداء إبلهم والفتيان بالقمر والنجم والفلاة والخيل. وقد ورد ذكر الغناء في شعرهم قال طرفة ابن العبد:
إذا نحنا قلنا اسمعينا انبرت لنا ... على رسلها مطلوقة لم تشدد
أي لم تتكلف وهذا هو الغناء الساذج وكانوا يطلقون على الترنم بالشعر اسم غناء وإن كان بالتهليل أو القراءة سموه تغيراً لأنه يذكر بالغابر ولم يزالوا على طريقتهم هذه بالغناء إلى