أن جاء الإسلام ودوخوا الأقطار واستولوا على الممالك فكانوا إذ ذاك لا يطريون إلا بالقراءة والشعر الحماسي لتمكن الدين منهم ولأنهم في دور تأسيس وفتوح فلما استتب لهم الأمر غلب عليهم الرفه والترف بما حصلوا عليه من غنائم الأمم فمالوا إلى الدعة والسعة في العيش ورقت طبائعهم ولانت جوانبهم وتفرق المغنون من الفرس والروم فوقعوا إلى الحجاز وصاروا موالي لهم وغنوا جميعاً بالعيدان والطنابير والمعازف وسمع العرب تلحينهم للأصوات فلحنوا عليها أشعارهم وظهر بالمدينة نشيط الفارسي وطويس وسائب خاثر مولى عبد الله بن جعفر فلحنوا شعر العرب وأجادوا فيه وطويس أول من غنى في الإسلام الغناء الرقيق وعنه أخذ ابن سريج والدلال ونؤمة الضحى وكان يكنى أبا عبد المنعم وأول صوت غنى به في الإسلام:
وقد براني الشوق حتى ... كدت من شوقي أذوب
وما زالت صنعة الغناء تتدرج في مدارج الارتقاء إلى أن بلغت الغاية القصوى أيام بني العباس عند إبراهيم بن المهدي الموصلي وابنه اسحق وابنه حماد وكانت الدولة يوم إذ في عنفوان شبابها وكانت العرب اشتغلت في نقل العلوم وكان من جملتها كتب الموسيقى لليونان والهند فتناولوها ودرسوها وأصبحت الموسيقى عندهم علماً ذا أصول وألفوا فيها التأليف دع ما استنبطوه من الألحان واخترعوه من الآلات وأمعنوا في القصف واتخذت آلات الرقص في الملبس والقضبان والأشعار التي يترنم بها لميه وجعل صنفاً واحداً واتخذت آلات أخرى للرقص تسمى بالكرج وهي تماثيل خير سرجة من الخشب معلقة بأطراف أقبية يلبسها النسوان ويحاكين بها امتطاء الخيل ويكررن ويفررن ويثاقفن وكثر ذلك ببغداد وأمصار العراق وانتقل فن الغناء إلى المغرب بواسطة زرياب غلام الموصلبين فإنه لحق بالحكم بن هشام بن عبد الرحمن
الداخل أمير الأندلس فبالغ في تكرمته وركب للقائه وأسنى له الجوائز وجعله من خواص ندمائه فأورث بالأندلس من صنعة للغناء ما تناقلوه إلى أزمان الطوائف وطمامتها بإشبيلية بحر زاخر وعقدت للغناء المجالس وماأدراك تلك المجالس قباب من بلور يتحدر الماء من أطرافها ومن حول القوم الحور وبينهم فتانة العينين مهضومة الحشا تنحني على ابن الطرب فتغنيه مشفقة.