وأوتاره فهو فاسد المزاج ليس له علاج وكيف يكون لك لفهم المعنى وتأثيره مشاهد في الصبي في مهده فإنه يسكته الصوت الطيب عن بكائه وتنصرف نفسه عما يبكيه إلى الإصغاء إليه والجمل مع بلادة طبعه يتأثر بالحداء تأثراً يستخف معه الأحمال الثقيلة ويستقصر لقوة نشاطه في سماعه المسافات الطويلة وينبعث فيه النشاط ما يسكره ويولهه فترى الجمال إذا طالت عليها البوادي واعتراها الإعياء والكلال تحت المحامل والأحمال إذا سمعت منادي الحداء تمد أعناقها وتصغي إلى الحادي ناصبة آذانها وتسرع في سيرها حتى تتزعزع عليها أحمالها ومحاملها وربما تتلف أنفسها من شدة السير وثقل الحمل وهي لا تشعر به لنشاطها.
ثم ذكر رضي الله عنه دليلاً على ما قاله قصة العبد الذي أهلك الجمال بطيب صوته إذ جعلها تقطع مسافة ثلاثة أيام في ليلة واحدة وبعده قال فإذاً تأثير السماع في القلب محسوس ومن لم يحركه السماع فهو ناقص مائل عن الاعتدال بعيد عن الروحانية زائد في غلظ الطبع وكثافته على الجمال والطيور بل على الجميع البهائم فإن جميعها تتأثر بالنغمات الموزونة ولذلك كانت الطيور تقف على رأس داود عليه السلام لاستماع صوته ومهما كان النظر في السماع باعتبار تأثيره في القلب لم يجز أن يحكم فيه مطلقاً بإباحة ولا تحريم بل يختلف ذلك بالأحوال والأشخاص واختلاف طرق النغمات فحكمه حكم ما في القلب انتهى ومن غريب ما ينقل في تأثير الغناء أنه خرج مخارق المغني مع بغض أصحابه إلى بعض المتنزهات فنظر إلى قوس مذهبة مع أحد من خرج معه فسأله إياها فكأنه المسئول ضمن بها وسنحت ظباء بالقرب منه فقال لصاحب القوس أرأيت أن تغنيت صوتاً فعطف عليك خدود هذه الظباء لتدفع إلي هذه القوس قال نعم فاندفع يغني
ماذا تقول الظباء ... أفرقة أم لقاء
أم عهدها بسليمى ... وفي البيان شفاء
مرت بنا سانحات ... وقد دنا الإماء
فما أحارت جواباً ... وطال فيها العناء
فعطفت الظباء راجعة إليه حتى وقفت بالقرب منه مستشرفة تنظر إليه مصغية إلى صوته فعجب من حضر من رجوعها ووقوفها وناوله الرجل القوس فأخذها وقطع العناء فعاودت