عليه أمارات النباهة وحدة الذهن. وكان للقائد المشار إليه ابنة وحيدة اسمها جميلة هي في السادسة من عمرها كسعيد وقد كان اجتماع سعيد بها في منزل واحد واشتراكهما في العمر سبباً في ارتباطهما برابطة الإخاء المتينة وألف كل منهما أخاه حتى صارا كأخ وأخته لا يطيقان افتراقاً.
وفي غضون ذلك أدخل الباشا سعيداً إلى المكتب الابتدائي فلما بلغ الثانية عشرة من عمره أتم الدراسة الابتدائية وثبتت لدى الباشا كفاءته فأدخله المكتب الإعدادي الملكي بدمشق داخلياً بلا أجرة فجدّ في دروسه حتى تقدم في صفه وأصبح الأول فيه وهو يختلف إلى منزل الباشا في اغلب الأحيان وكلما دخل المنزل يشعر بميل لرؤية جميلة ويشتاق إليها كلما غاب عنها فأدرك أن لها مكاناً من قلبه علياً وخُيل له أن يتزوج بها ولكن كان يمنعه عن هذا التصور ما بين أبيه وأبيها من تفاوت الطبقة عالماً أن الناس لا يزالون مغرمين بالظواهر وأن الصفة المطلوبة بل الضالة المنشودة في الزوجية هي المال والجاه وندر من اهتم بمكارم الأخلاق والتربية الصحيحة ولذلك أيقن أنه لا ينال ما تطمح إليه نفسه إلا إذا نال جاهاً ومقاماً عظيماً. وكان كلما اجتمع بها يرى منها أمارات الحب والميل إليه ولم يجسر أحدهما أن يبوح لصحابه بما تكنه الصدور.
٣
ألا أن خير الودّ ودّ تطوعت ... به النفس لا ودّ أتى وهو متعب
حدث ذات يوم أن كانت دار الباشا خاليةً فعزم سعيد على إظهار ما في فؤاده من دواعي الهوى وراح يختلس الفرص ويحادث جميلة ويأخذ معها في أهداب الكلام حتى ساقهما ذلك إلى ذكر أيام صباهما ثم تحين المناسبة وقال لها: أيخطر على بالك يا تُرى ما كان بيننا مستحكماً من علائق الحب والوداد أيام كنا أحداثاً؟ ألا تذكرين ذلك العهد الذي كان بهجة الأيام والليالي ورياض الأزمنة فكأن الشاعر نظر إليه حين قال:
شهور قد قُضين وما علمنا ... بأنصافٍ لهن ولا سِرار
- ألستَ تحبني الآن؟
- كيف لا أحبكِ! ولكني لا أعلم إن كنت باقيةً على العهد في الحب أو زال أثره من نفسك ذهاب أمس الدابر فإن الأيام تقلب القلوب.