قد اجمع الناس جميعا على تحريم الخمر بكتاب الله إلا قوما من مجان أصحاب الكلام وفساقهم لا يعبأ الله بهم فإنهم قالوا: ليست الخمر محرمة وإنما نهى الله عن شربها تأديبا كما أنه أمر في الكتاب بأشياء ونهى عن أشياء على جهة التأديب وليس منها فرض كقوله في العبيد والأماء: فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا. وقوله في النساء فاهجروهن في المضاجع واضربوهن - ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط وقالوا لو أراد تحريم الخمر لقال حرمت عليكم الخمر كما قال حرمت عليكم الميتة والدم. وليس للشغل بهؤلاء وجه ولا لتشقيق الكلام بالحجج عليهم معنى إذ كانوا ممن لا يجعل حجة على إجماع وإذ كان ما ذهبوا إليه لا يختل على عأقل ولا على جأهل واجمع الناس على أن ما غلا وقذف الزبد من عصير العنب من غير أن تمسه النار خمر وانه لا يزال خمرا حتى يصير خلا واختلفوا في الحال التي يخرج بها من منزلة الخمر إلى منزلة الخل فقال بعضهم: هو إن يتناهى في الحموضة حتى لا يبقى فيها مستزاد وقال آخرون: هو إن تغلب عليها الحموضة وتفارقها النشوة. وهذا هو القول لأن الخمر ليست محرمة العين كما حرم عين الخنزير وإنما حرمت بعرض دخلها فإذا زايلها ذلك العرض عادت حلالا كما كانت قبل الغليان حلالا وما أكثر من يذهب من أهل النظر إلى أن الخمر إذا انقلب عن عصير والخل إذا انقلب عن خمر أن عين كل واحد غير عين الآخر وهذا القول ما ليس به خفاء على من تدبره وأنصف من نفسه وكيف يكون هاهنا عينان والجسم واحد لم يخرج من الوعاء ولم يبدل وإنما أنتقلت أعراضه تارة من حلاوة إلى مرارة وتارة من مرارة إلى حموضة ولم يذهب العرض الأول جملة واحدة ولا أتى العرض الثاني جملة (واحدة) وإنما زال من كل واحد شيء بعد شيء كما ينتقل طعم الثمرة وهي غضة من الحموضة إلى الحلاوة وهي يانعة والعين قائمة وكما يأجن الماء بطول المكث فيتغير طعمه وريحه والعين قائمة وكما يروب اللبن بعد أن كان صريفا فيتغير طعمه والعين قائمة ومثل الخمر مما حل بعرض وحرم بعرض المسك كان دما عبيطا حراما ثم جف وحدثت رائحته فيه فصار طيبا حلالا. وأما النبيذ فاختلفوا في معناه فقال قوم: هو ماء الزبيب وماء التمر من قبل أن يغليا فإذا اشتد ذلك وصلب فهو خمر. وقالوا: إنما كان الأولون من الصحابة والتابعين يشربون ذلك يتخذونها في صدر نهارهم ويشربونه في آخره ويتخذونه من أول الليل ويشربونه على