الأمم في أزمان الجهل ما كانت تعرف من السميات إلا ما تسقي به أسنة رماحها ولكن الأمم المتمدنة عرفت جميع أنواع السميات وعرفت أيضاً كيف تقابلها بما يدفع ضررها. كل إنسان يمكنه أن يفعل جريمة ما وذو المعارف وحده هو الذي يتمكن من وضع قانون لمنعها وكلما قصرت معارف المرء صار ميالاً إلى فصل منفعته عن منافع الغير وكلما ارتفعت مداركه وسمت معارفه علم الجامعة بين المنفعتين.
وبعد فإن من نالوا غايتهم حقيقة بجعل أممهم في حضيض الجهل إنما نالوها بنشر الأوهام وإذاعة الأغلاط فيهم ولقد كان أولئك الرؤساء أنفسهم طعمة في هذه السياسة الحرجة إذ صارت الأمم التي استمرت في السقوط تحظر قوانينها عليها أن تصعد في مراقي التقدم فريسة الأمم التي ارتقت معارفها فارتفعت قيمتها عليها. لأن الأولى شبت في الجهل وشابت في الطفولية تحت قيادة قوم أطالوا زمان خمولها ظناً بأنه يسهل عليهم تملكها لذلك سهلت تلك الأمم فتح أبوابها للطالبين إذ لا فرق عندها بين حاكمها والجديد فهي خاضعة وأولئك يحكمون.
هذا ما قاله المتشرع الإنكليزي وقال روبرتسون: كان الإفرنج في القرون الوسطى أميين لا يقرؤون ولا يكتبون فكان الأعيان لا يحسنون توقيع الكتب الصادرة عنهم فيكتفون برسم الصليب عليها بدلاً من التوقيع وقد شوهد كثير منها في الأزمنة الأخيرة بعضها صادر عن الملوك وبعضها عن الأعيان كما ذكر دوكنج بل وجد في القرن الرابع عشر أن أعظم أكابر عصرهم وقوادهم مثل دوغسقلين رئيس الجيوش الفرنسية أمياً. وكان معظم القديسين أرباب المناصب الدينية والدنيوية لا يحسنون كتابة أسمائهم على المقررات في المجالس وكان أعظم امتحان يجري على من يروم أن يتقلد وظيفة سؤاله عما إذا كان يحسن قراءة الإنجيل والمكاتبات ويفسر معناها كلمة كلمة.
ولطالما كان الملك الفريد الأكبر يشكو من أنه لا يوجد في البلاد الواقعة بين نهري هومبير والتايمس أحد من القديسين يفهم الدعوات القديسية بلغتها الأصلية ويتمكن من ترجمة العبارات السهلة من اللاتينية. وسبب ذلك ندرة الكتب وعدم انتشارها وذلك أن الرومانيين كانوا يكتبون كتبهم على جلود مصقولة أو على رق قشر البردي ويقال له أيضاً ورق النيل لأنه كان يأتي إليهم من مصر ولما كان ورق البردي أرخص كان استعماله عندهم أكثر من