بالابن فأدرك من ذلك الصياح أن الميت أرسل إلى الجبانة وسأل الجيرأن فأخبروه أنه أخرج وصلي عليه ثم أخذوه ليواروه التراب فذهب إلى المدافن فلم يجد سوى حملة الميت راجعين فسألهم عنه فقالوا أنه دفن وأجره على الله فأخذه البكاء وأسف أسفاً عظيماً. وبينما هو يكفكف عبراته أتاه طغمة الشحاذين فأحاطوا به فمنهم من يقول اسمعونا الفاتحة إلى روح الميت ومنهم من تسرع في تلاوة حزب من القرآن ومنهم من يقول أعطنا من مال الله وتصدق عن روح ابنك فما وسعه إلا أن شتمهم وكدرهم وطردهم ولكنهم استعملوا سلاحهم إذ أبت نفوسهم السب والشتم فأعطى خادمه ريالا وأمره بأن يصرفه قطعاً صغيرة ويوزعه عليهم على السوية تخلصاً من سلاطتهم وإلحافهم فتركوه ولحقوا الخادم وكادوا يضربونه فرمى الريال وفر أمامهم يعدو مسرعاً فإنقضوا جميعاً على الريال وأنشئوا يترامون بعضهم فوق بعض فجرح أحدهم وراح ينتقم من رجل برئ فقابله وانتصر عليه فأتى الشرطي وأخذ يضربهم بسوطه ففر بعضهم وقبض على الآخر فساقهم إلى المخفر وأخذ الخادم فلم يتركهم حتى أخذ منهم ما يرضي خاطره.
طغمة الشحاذين في كل بلدة ضروب وأشكال وأكثرهم عدداً وأرقأهم في الشحاذة والتفنن في الإلحاح والإلحافكلاليب دمشق فلهم هناك رئيس يحكم على أعوأن له من كل حي من أحياء المدينة ومن وظيفة الأعوان أخبار الرئيس في أسرع وقت بموت ميت وتوزيع صدقة وهذا يعلم جميعهم فما هو إلا أن يصطفوا حول جدار الميت قبل المعزين ينتظرون خروج النعش ليمشوا حوله مهللين مكبرين بأنغام خاصة بهم فيمدون الكلام وينغمون بأشداقهم ويخرجون ألسنتهم. وللرئيس أجرة الأخبار يتقاضاها من كل فرد منهم حتى إذا دفن الميت يهجمون على أهله ويطلبون منهم أجرة التهليل والتكبير كانهم دعوهم وقالوا على أجرة معلومة وقد يسمعونهم ألفاظاً فظة ويحملونهم منة كان يقولون لا يليق بمن ورث مبالغ من المال أن لا يتصدق عن روح مورثه كانهم شركاء الوارث في ميراثه فيزيدونه غماً إلى غمه.
ولما رجع سعيد من الجبانة وفكر بأنه خلص من أجرة الحضانة وحيل بينه وبين زوجه قوي أمله وشكر ربه على ما زال عنه من الغمة وذهب إلى زيارة الباشا على حسب عادته وأخبره بما وقع له فأسف هذا له ورق لحاله وشعر بلزوم حمايته لأنه هو ولي نعمته ولامه