بإبلاغنا رسالته بأهون من إفحامك وعرضت لنا بإنكاره، ففهمنا منك وأجبنا عنه، بما يجب. فكنت تزيّن على السلطان ولا تفشي سره. وتستحيينا قليلاً فلا تستقبلنا بما استقبلتنا به، فنحن نعلم أن أمير المؤمنين أيده الله، لا يتمادى على هذا الرأي فينا، وأنه سيراجع بصيرته في تعزيرنا. فلو كنا عنده على الحالة التي وصفتها عنه، - ونعوذ بالله من ذلك - لبطل عليه كل ما صنعه، وعقده وحله، من أول خلافته الى هذا الوقت. فما بت له كتاب حرب، ولا سلم، ولا بيع ولا شراء، ولا صدقة ولا حبس ولا هبة ولا عتق، ولا غير ذلك، إلا بشهادتنا. هذا ما عندنا والسلام. ثم قام هو وأصحابه منصرفين، فلم يبعدوا الى باب القصر الأول، إلا والرسول خلفهم بصرفهم الى مواضعهم من بيت الوزراء. فلقوهم بالأعظام والاعتذار، مما كان من صاحبهم المخاطب لهم. وقال لهم: أمير
المؤمنين يعتذر إليكم من موجدته، ويعلمكم بندمه على ما فرط منه، وأنه متبصر في أعذاركم. وقد أمر لكل واحد منك بصلة وكسوة علامة لرضاه عنكم. فدعوا له وأثنوا عليه، وانصرفوا أعزة. وبقي في صدر الخليفة من هذا الحُبس حزة. وبلغ ابن لبابة هذا الخبر على وجهه. فرفع الى الناصر أنه يغض من أصحابه الفقهاء، ويقول: إنهم حجروا عليه واسعاً. ولو كان حاضرهم لما سلف لأفتاه بجواز المعارضة، وتقلدها، وناظر عليها أصحابه. فوقع الأمر بنفس الناصر، وأمر بإعادة محمد بن لبابة هذا الى عادته من الشورى. ثم أمر القاضي بإعادة الشورى في هذه المسألة فاجتمع القاضي للنظر في الجامع. وجاء ابن لبابة آخرهم وعرفهم القاضي ابن بقي بالمسألة التي جمعهم لها، وغبطة المعاوضة فيها. فقال جميعهم بقولهم الأول، من منع إحالة الحبس عن وجهه، وابن لبابة ساكت. فقال له القاضي: ما تقول أنت يا أبا عبد الله؟ قال: أما قول إمامنا مالك بن أنس، فالذي قاله أصحابنا الفقهاء. وأما أهل العراق، فإنهم لا يجيزون الحُبُسَ أصلاً. وهم علماء أعلام، يهتدي بهم أكثر الأمة. وإذا بأمير المؤمنين من حاجة الى هذا المحشر ما به، فما ينبغي أن يرد عنه، وله في السنّة فسحة. وأنا أقول فيها بقول العراقيين، وإنفاذ ذلك رأياً. فقال له الفقهاء: سبحان الله تترك قول مالك الذي أفتى به أسلافنا، واعتقدناه بعدهم وأفتينا به لا نحيد بوجه عنه؟ وهو رأي أمير المؤمنين ورأي الأئمة آبائه؟ فقال لهم محمد بن يحيى: ناشدتكم الله العظيم ألم تنزل بأحد منكم مسألة بلغت بكم أن أخذتم فيها بقول غير مالك في خاصة أنفسكم؟ وأرخصتم لأنفسكم في ذلك؟ قالوا بلى. قال: فأمير المؤمنين أولى بذلك، فخذوا مأخذكم، وتعلقوا بقول من يوافقه من العلماء. فكلهم قدوة، فسكتوا. فقال للقاضي: إنْهِ الى أمير المؤمنين بفتياي. وكتب القاضي الى أمير المؤمنين بصورة المجلس. وبقي مع أصحابه بمكانهم، الى أن أتى الجواب أن يؤخذ له بفتوى محمد بن يحيى بن لبابة. وينفذ ذلك. ويعوضوا المرضى من هذا المحشر بأملاكه بمنية عجبٍ. وكانت عظيمة القدر جداً، تزيد أضعافاً على المحشر. ثم جاء صاحب رسائل من عند أمير المؤمنين، وكتاب منه لمحمد بن يحيى بن لبابة، بولاية خطة الوثائق، لكي يكون هو المتولي عند هذه المعارضة. فهنّي بذلك. وأمضى القاضي الحكم بفتواه وأشهد عليه، وانصرفوا. فلم يزل محمد يتقلد خطة الوثائق، والشورى من هذا الوقت، الى أن مات. ومنزلته من السلطان لطيفة. قال القاضي: ذاكرت بعض مشائخنا بهذا الخبر، إذ أفضت مذاكرتي له، الى تسجيل الحبيب عملية سخطته. فقال: ينبغي أن يضاف هذا الخبر، الى سجل السخطة فهو أولى بما تضمنه، أو كما قال. إلا أن ابن عفيف، ذكر أنه مات رحمه الله تعالى، عن حال معتدلة. غفر الله لنا وله. قال ابن مفرج: كان هذا التسجيل سبباً لإقلاعه عما نسب إليه، الى توبة نصوح، رجع بها الى أحسن أحوال العلم. فلزم بيته مدة، دائماً على دراسة العلم، ومطالعته، حتى برع، وكمل. ثم حجّ ولقي جماعة من أهل العلم، وانصرف. وقد أعدلت حاله. فأقيلت عثرته. وكان سبب موته، أنه تخاصم عند القاضي ابن أبي عيسى، مع صاحب الشرطة ابن عاصم، في حمام. وتنازعا الخصومة يوماً والمجادلة، حتى اضطرب جسم محمد، وضربه فالجٌ صرعه، فحمل الى داره، في نعش. وكان سبب ميتته عاجلاً. فتوفي في ليلة الاثنين، لست خلون من ذي الحجة، سنة ثلاثين وثلاثماية. وقيل توفي في ذي القعدة، من السنة. فسمع خصمه، وهو خارج من المسجد، الذي فلج فيه، وهو متهلل شامل يقول: الحمد لله رب العالمين. اسبق عدوك ولو بيوم. يعتذر إليكم من موجدته، ويعلمكم بندمه على ما فرط منه، وأنه متبصر في أعذاركم. وقد أمر لكل واحد منك بصلة وكسوة علامة لرضاه عنكم. فدعوا له وأثنوا عليه، وانصرفوا أعزة. وبقي في صدر الخليفة من هذا الحُبس حزة. وبلغ ابن لبابة هذا الخبر على وجهه. فرفع الى الناصر أنه يغض من أصحابه الفقهاء، ويقول: إنهم حجروا عليه واسعاً. ولو كان حاضرهم لما سلف