للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن غرائب فتاويه ونزعاته رحمه الله، كان أبو عمر لكثرة حفظه، وقوة درايته، لا يبطئ بالفتاوي ولا يطيل حسبما عند نفسه، بل يجيب لوقت أو يومه، ومن نوادر ما أفتاه أبو عمر فتواه في امرأة حرة بقرطبة، لها ابنة مملوكة صبية باعها مولاها من رجل يخرجها عن قرطبة، فشكت أمها ذلك فأفتى بمنعه من إخراجها وبيعها على مشتريها، وخالفه في ذلك القاضي ابن زرب وغيره من الفقهاء، فأخذ فيها ابن أبي عامر بقول أبي عمر. ومنها مسألة وقعت ببلدنا بسبتة وهي إذ ذاك

من عمل صاحب الأندلس، وذلك أن الفقيه يحيى بن تمام من أهلها، اشترى حصة من حمّام فيه شرك، وأشهد البائع لابن تمام في الظاهر أنه تصدق به عليه، ليقطع شفعة الشريك، فقام الشريك بشفعته، فأفتى الفقهاء بها إذ ذاك كلهم بقطع الشفعة، إذ لا شفعة في الصدقة. فقال الشفيع للقاضي: لا أرضى إلا بفتوى فقهاء الحضرة بقرطبة. فرفع إليهم السؤال على وجهه، وبدأ بالشيخ أبو عمر فوقع أسفلها: هذا من حيل الفجار، وأرى الشفعة واجبة. فلما رأى ابن تمام جوابه، قال: هذا عقاب لا يطار تحت جناحه، والحق خير ما قيل، هات مالي وخذ حمامك. ومن غرائب فتاويه التي زاحم فيها ابن أبي عامر، قصة عبد الملك بن منذر البلوطي وكان يتولى الرد بقرطبة وكان من صنائع الحكم، فلما تغلب ابن أبي عامر على الأمر واتخذ لنفسه صنائع، وحجر على هشام الأمير وهويت قلوب الناس إليه فكانوا يتربصون به الدوائر، واجتمع جماعة من وجوه الناس على النكث بهذه الطبقة المستغربة، والبطش بهذا الخليفة المستضعف، والبطش بابن أبي عامر وقتله، والقيام بغيره. وكان ابن منذر المتولي لكبر القصة فوقع ابن أبي عامر على الخبر وعلى كتاب بخط ابن منذر في القصة، وجمع الفقهاء والقاضي ابن زرب للشورى في أمرهم. وقد أقر ابن منذر بالأمر على نفسه، وأن الكتاب خطه. فأفتى بعض الفقهاء فيهم بحكم المحاربة، لما سعوه من الفساد في الأرض. وتوقف آخرون، منهم القاضي وألحّ ابن أبي عامر، على أبي عمر ابن المكوى واضطره الى القول فيها. فقال: ما أرى عليه شيئاً، هو رجل همّ بمعصية فلم يفعلها. ولم يجرد سيفاً، ولا أخاف سبيلاً. إنه ممن قال فيه صلى الله عليه وسلم: أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم. فخرج أمر السلطان بعد ذلك بطلب ابن المنذر، فنفذ ذلك في الحين وانقبض ابن المكوى في داره، وادعى مرضاً نحواً من شهرين فلم يفتِ أحداً، ولا خرج لمن أتاه، إنكاراً لما جرى على صاحبهم، ابن المنذر. وإذ لم يؤخذ فيه برأيه وتوقعاً لشر ابن أبي عامر، الى أن تقادم العهد وخشي زيادة وحشة ابن أبي عامر، فعاد لحاله. ومن غرائب ذكائه وتلطفه، أن بعض الحكام وجه الى امرأة معها بنية تطلب فرضها من أبيها، والرجل ينكر أن تكون ابنته، فلم يزل به يعظه، ويخوفه، ويستلطفه، ولا تنفعه رأفة فيه، وكانت عادته الصبر في مثل هذا. الى أن أخذ أبو عمر الطفلة، وكانت حسنة الصورة، عليها فروة جديدة فأجلسها في حجره، وجعل يمسح عليها، ويثني على حسنها، ويترصد غفلة الرجل، الى أن رآه مطرقاً غافلاً فقال: حتى فروها مشاكل لها، أحسن في شرائه أخلف الله له، ثم قال له مستعجلاً بكم بالله اشتريته؟ فقال - من غير روية -: بعشرة دراهم فقال: أحسنت قم فأفرض لابنتك بأقل ما يلزمك كذا. فخجل الرجل وأذعن. ومثل ذلك قصة أخرى في رجلين رفعا إليه من العامة أحدهما يدعي رق الآخر، وأنه ابن أمته، منذ زمان حتى عرفه الآن وهو في زي التجار. فأخذ الشيخ في ألطافهما ووعظهما فلا يلقى منهما إلا الإصرار فتفرس في المدعى قوة أدّته الى طول مراوضتهما فلعله يظفر ببغيته، فجعل يكلمهما معاً ومنفردين في الرجوع الى الحق فلا يغيبه، فكان فيما سأل عنه المدعي أن قال له: كيف كان اسمه عندك؟ فقال: رزق، قال فاكتم هذا، وكان قد تسمى بأحمد، وعاد الى شأنه من مراوضتهما الى أن أظهر الضجر وقال: أصرفهما يا غلام وعرف الحكم أني ما أجد على المدعي عليه حجة، ولا شبهة توجب شيئاً غير ضامن يأخذه عليه، الى أن يظهر غير هذا فانطلقا عنه، وقد علت المدعي فترة أكسبت العبد طمعاً ألقاه في الغفلة، فلما ولوه ظهرهما نادى الفقيه: يا رزق فلبّاه نعم يا سيدي، فقال له: طال ما أعييتنا يا كذا أطع مولاك وقال لمولاه: خذ بيد عبدك، فبهت العبد وانقاد لسيده فمضى معه. عمل صاحب الأندلس، وذلك أن الفقيه يحيى بن تمام من أهلها، اشترى حصة من حمّام فيه شرك، وأشهد البائع لابن تمام في الظاهر أنه تصدق به عليه، ليقطع شفعة الشريك، فقام الشريك بشفعته، فأفتى الفقهاء بها إذ ذاك كلهم بقطع الشفعة، إذ لا شفعة في الصدقة. فقال الشفيع للقاضي: لا أرضى إلا بفتوى فقهاء الحضرة بقرطبة. فرفع إليهم السؤال على وجهه، وبدأ

<<  <  ج: ص:  >  >>