واعتراها الأرق ولازمها الحزن والبكاء فنحل جسمها وتبدلت ألوانها وضعفت قواها فسطت جراثيم السل على كرياتها البيضاء فعطل جهاز التنفس وخرب الرئتين فمنع تطهير الدم من الحامض الكاربونيك فتبدلت حمرة خدها بالأصفرار وأخذت وطأة المرض تزداد عليها يوماً فيوم فماتت شهيدة ضعف الأرادة وسوء التصرف وعلم أخوها خطأه ولكنه حمل الذنب على سعيد وعزم على الانتقام منه بدلً من أمه الجانية. ولما بلغ سعيد موت شهيرة أسف عليها وحزن عليها وبكى بكاءً دعا إلى كدر جميلة ولكن اعتذر لها وأقسم الإيمان على أن بكاءه كان من قبيل الأسف على ما عانته من العذاب والشقاء.
ولما تخلص سعيد من كل منغص أيقن أنه لم يبق عنده شك ولا شبهة في السعادة التي كأن يسعى إليها فاتسعت آماله وصار لا يفكر إلا في السعادة وصار لا يرى إلا ضاحكاً مسروراً وقد نسي ما أتى عليه من قبل وظن أنه خلق سعيداً وعاش سعيداً وسيموت سعيدا ولكن فاته قول الشاعر:
وسالمتك الليالي فاغتررت بها ... وعند صفو الليالي يحدث الكدر
وذلك أن سعيداً بينما كان راكباً عربته يتجول بها على ساحل البحر في رأس بيروت ويتطلع إلى الأوانس اللواتي تتزين لتسحر الألباب وتطغي الشباب ممن يسابقونهن في الزينة والتبرج وسرعة الانتقال من زي إلى آخر وهما فريقان بين ساحر ومسحور وعاشق ومعشوق أو عاشق محروم وعجوز تفكر في أيام صباها يوم كان الشباب يلتفون من حولها متسابقين في استجلاب قلبها وكان صاحبنا يأسف لذلك العاشق المحروم ويضحك من تلك العجوز الشمطاء التي صبغت شعرها وبيضت وجهها بالذر ور ولونت خدودها بالصباغ الأحمر لترجع فتاة وهل يصلح العطار ما أفسده الدهر ويلوم تلك الغادة الدعجاء التي زين الخالق جمالها بعيون نجل تكاد تفتت الأكباد على ما شوهت به نور وجهها من الذر ور لتجعله أبيض ولو تركته على طبيعته لكان أجمل وقد تؤثر فيها شدة حرارة بيروت فيكللها العرق ويرسم خطوطاً في غصون خدها المبيض بالبز موت فتشعر بذلك أو تنبهها رفيقتها فتخرج من جيبها منديلاً مليء بالذر ور فتمسح وجهها كانها تمسح العرق.
ويضحك من الشبأن الذين حرمهم الله من نعمة الجمال عندما يرأهم يرفعون سبلا تهم بشواربهم وينزلون طرأبيشهم ليستعطفوا قلوب الغادات وربما التفت إليهم واحدة من قبيل