وعلى العاقل أن يؤنس ذوي الألباب بنفسه ويجرئهم عليها حتى يصيروا حرساً على سمعه وبصره ورأيه فيستنيم إلى ذلك ويريح له قلبه ويعلم أنهم لا يغفلون عنه إذا هو غفل عن نفسه.
وعلى العاقل ما لم يكن مغلوباً على نفسه أن لا يشغله شغل عن أربع ساعات ساعة يرفع فيها حاجته إلى ربه وساعة يحاسب فيها نفسه وساعة يقضي فيها إلى أخوانه وثقاته الذين يصدقونه عن عيوبه وينصحونه في أمره وساعة يخلي فيها بين نفسه وبين لذاتها مما يحل ويجمل فإن هذه الساعات عون على الساعات الأخر وإن استجمام القلوب وتوديعها زيادة قوة لها وفضل لغة وعلى العاقل أن لا يكون راغباً إلا في إحدى ثلاث خصال تزود لمعاد أو مرمة المعاش أو لذة في غير محرم.
وعلى العاقل أن يجعل الناس طبقتين مختلفتين متباينتين ويلبس لهم لباسين مختلفين فطبقة من العامة يلبس لهم لباس انقباض وانحجاز وتحرز وتحفظ في كل كلمة وخطوة وطبقة من الخاصة يخلع عندهم لباس التشدد ويلبس لباس الأنسة واللطف والبذلة والمفاوضة ولا يدخل في هذه الطبقة إلا واحد من ألف كلهم ذو فضل في الرأي وثقي في المودة وأمانة في السر ووفاء بالإخاء.
وعلى العاقل أن لا يستصغر شيئاً في الخطأ والزلل في العلم والإغفال في الأمور فإن من استصغر الصغير أوشك أن يجمع إليه صغيراً وصغيراًَ فإذا الصغير كبير وإنما هي ثلم يثلمها العجز والتضييع فإذا لم تسد أوشكت أن تنفجر بما لا يطاق ولم نر شيئاً قط قد أتى إلا من قبل الصغير المتهاون به.
قد رأينا الملك يؤتى من قبل العدو المحتقر ورأينا الصحة تؤتى من الداء الذي لا يحفل به ورأينا الأنهار تنبثق من الجدول الذي يستخف به وأقل الأمور احتمالاً للضياع الملك لأنه ليس منه شيء يضيع وإن كان صغيراً وإلا اتصل بآخر يكون عظيماً.
وعلى العاقل أن يجبن عن الرأي الذي لا يجد عليه موافقاً وإن ظن أنه على اليقين، وعلى العاقل أن يعرف أن الرأي والهوى متعاديان وأن من شأن الناس تسويف الرأي وإسعاف الهوى فيخالف ذلك ويلتمس أن لا يزال هواه مسوفاً ورأيه مسعفاً.