وما مجالس الوعظ أيام الحضارة الإسلامية إلا من بركة تلك العقول الكبيرة والتربية الراقية فكنت ترى أمثال الحسن البصري والفخر الرازي وابن الجوزي ومئات غيرهم في المساجد والمنابر يعظون العامة ليعلموهم ما حرموا منه فيما ينفعهم في دينهم ودنياهم. بدأ ذلك على عهد الخليفة الرابع فكان يأتي بواعظ العامة ويسأله فإن رآه متمكناً من العلم بحيث لا يضل الناس بكلامه أذن له بالوعظ وإلا منعه وما كان جلة العلماء يبستنكفون من تفهيم العامة كما كانوا يعلمون الخاصة.
وظاهر أن ما كانوا يلقونه على مسامع جمهور الناس من أنواع العلوم لم يكن في صعوبته كالذي يلقونه على خواصهم ولذلك قلما كان يتأتى العبث بعقول العامة في القرون الستة الأولى للإسلام فقربوا من الخير والسلامة من أكثر خاصة العصور المتأخرة ممن جعلوا الدين سلماً إلى الدنيا وقشور العلم للمباهاة. ومقادير الخاصة والعامة في كل أمة نسبية في الغالب فقد يكون رجل من طبقة الخواص في أمة فإذا قيس بغيرها من الأمم الراقية لا تنزله إلا منزلة العوام.
قال الصفهاني: لا شيء أوجب على السلطان من مراعاة المتصدين للرياسة بالعلم فمن الإخلال بها ينتشر الشر وتكثر الأشرار ويقع بين الناس التباغض والتنافر وذلك أن السواس أربعة الأنبياء وحكمهم على الخاصة والعامة ظاهرهم وباطنهم والولاة وحكمهم على ظاهر الخاصة والعامة دون باطنهم والحكماء وحكمهم على بواطن الخاصة والوعظة وحكمهم على بواطن العامة وصلاح العالم بمراعاة أمر هذه السياسات لتخدم العامة الخاصة وتسوس الخاصة العامة وفساده في عكس ذلك ولما تركت مراعاة المتصدي للحكمة والوعظ ترشح قوم للزعامة بالعلم من غير استحقاق منهم لها فأحدثوا بجهلها بدعاً استغووا بها العامة واستجلبوا بها منفعة ورياسة فوجدوا من العامة مساعدة لمشاكلتهم لهم وقرب جوهرهم منهم:
فكل قرين إلى شكله ... كأنس الخنافس بالعقرب
وفتحوا بذلك طرقاً منسدة ورفعوا بها ستوراً مسبلة وطلبوا منزلة الخاصة فوصلوا إليها بالوقاحة وبما فيها من الشره فبدعوا العلماء وكفروهم اعتصاباً لسلطانهم ومنازعة لمكانهم وأغروا بهم أتباعهم حتى وطؤهم بأخفافهم وأظلافهم فتولد من ذلك البوار والجور العام.