للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الجاهلة تتناول جميع العلوم وتنقسم إلى قسمين المحسوسات والمعقولات ودعيت علوم الطبيعة وعلوم ما وراء الطبيعة. أما الصنائع اليدوية فلم تكن منظمة تنظيماً معقولاً ولا جارية على طريقة معقولة وكان أرباب الأفكار يحتقرونها فلا يمارسها إلا الصعاليك ينصرفون إليها تقليداً ويخلفون في تعلمها آباءهم بدون وقوف على القوانين الميكانيكية أو الطبيعية التي كانوا يعملون بها على الدوام.

ثم حسنت حال الإنسان بالتدريج ودخلت الأعمال في طور نظام وانتظمت العلوم الرئيسة لاسيما الآداب والفنون وعلوم النظر والعلوم العملية أي التجارة والصناعة والحرف ونشأ الأخصاء في كل فرع من فروع هذه الطبقات. فالطبيب مضطر إلى تعلم أمور كثيرة ولا يخصي في تعاطي فرع واحد إلا في المدن أما في القرى فيمارس كل فرع من فروع الأمراض الباطنية والخارجية. وهكذا الحال في الأعمال التجارية والصناعية فإن كل حرفة أو مهنة تنقسم على أقسام تدعى تقسيم الأعمال. وقد دخل كل علم اليوم في دائرة الأخصاء حتى ما يلزم الطاهي والبائع والسوقي في المعارف فأصبح من الضروري بالنظر لتكاثر أعمال البشر وانتشارها أن يزيد أبداً الأخصاء في كل علم وشأن. وإذا نظرت إلى الأخصاء من حيث العلم فإنه دليل الكفاءة وبدونه لا يكون عالم فإن المبادئ الأولية من جميع العلوم هي ولا شك نافعة لكل الناس حتى العامة ومتى حاز المرء قسطاً من هذه العلوم السطحية ورأى أن يتبحر فيها يجب عليه تعيين الموضوع الذي سينصرف إليه وبدون ذلك يتقدم المرء في علمه تقدماً بطيئاً ويخلط فيه ويبقى متوسطاً إلى الضعف. والأخصاء ضروري أيضاً في العلم العملي أي في المعامل والأعمال اليدوية وذلك للإسراع فيها ويرى أرباب معامل الأبر والخياطة في لندرا أن في تقسيم الأعمال اقتصاداً كبيراً.

إذا قسمت الأعمال وأخصى المشتغلون بالعلوم وتوسعوا فيها فالأخصاء يؤدي ولا جرم إلى الضعف الأدبي. وذلك أن العاملات مثلاً إذا قضين نهارهن في عملهن السهل اللطيف في الظاهر كأن يتوفرن على إدخال الخيوط في أبرهن فإنهن لا يفقدن شيئاً من حواسهن ولكن ثبت بالإحصاء أنهن يفقدن حاسة النظر في أقرب وقت أما القوى العقلية والقوى المماثلة لها فإنها تتأذى أيضاً. أما في العلم المحض فإن من ينصرفون إلى الأخصاء ككثير من الرياضيين والمهندسين والفلكيين يعيشون في العالم كأنهم ليسوا منه ويدهشون معاصريهم