الأول ومولاه في الثاني بتلك اللغة وحسن تلطفهما في إنقاذه من التهلكة.
هل أتاكم حديث الحجاج بن يوسف ذلك الداهية الثاني فقد كان ملازماً لتيادوق وثيادون النصرانيين ولهما مكرماً. دخل الثاني عليه يوماً فقال له الحجاج: أي شيء دواء أكل الطين. فقال: عزيمة مثلك أيها الأمير. فرمي الحجاج بالطين ولم يعد إلى أكله بعدها.
وهل أتاكم حديث الدواوين في صدر الإسلام؟ فقد كان القيمون عليها كتاباً من النصارى وكانوا يكتبون الدفاتر باللغة الرومية حتى جاء عبد الملك بن مروان فألزمهم باستخدام اللغة العربية.
وهل سمعتم في دولة من الدول أو هل جاءكم نبأ عز ملة من الملل بمثل ما حصل للأخطل؟ فإن هذا الشاعر النصراني كان في خصام مستديم مع شعراء المسلمين بل خاض في حق الهاشميين وتهجم عليهم بالمثالب والمطاعهن وهو على نفسه وماله آمن.
هذا بعض ما أمكنني استحضاره الآن فيما يتعلق بالدولة الأموية.
أما الدولة العباسية فحدث عن البحر ولا حرج فقد كان لها في هذا الباب ما هو أعجب وأغرب.
انظروا ماذا جرى للخليفة المنصور وبخله مشهور حتى سماه التاريخ بأبي الدوانيق وبالدوينيقي أكرم طبيبه جيورجيس بن جبريل بن يختيشوع وأمر له بخلعة جليلة وأنزله في أجمل موضع من دوره وأكرمه كما يكرم أخص أهله. فلما مرض الرجل خرج الخليفة بنفسه ماشياً إليه وتعرف خبره. ولشدة شغفه به وتفانيه في حبه قال له: يا حكيم اتق الله وأسلم وأنا أضمن لك الجنة. فقال: قد رضيت حيث آبائي في الجنة أو في النار. فضحك المنصور وأمر له بعشرة آلاف دينار.
والمنصور كان حازم الرأي قد عركته الدهور وخافت الأيام سطوته وروى العلم وعرف الحلال والحرام لا يدخله فتور عند حادثة ولا تعرض له ونية عند مخوفة يجود بالأموال حتى يقال هو أسمح الناس ويمنع في الأوقات حتى يقال هو أبخل الناس ويسوس سياسة الملوك ويثب وثوب الأسد العادي لا يبالي أن يحرس ملكه بهلاك وخلف من الأموال ما لم يجتمع مثله لخليفة قبله ولا بعده وهو تسعمائة ألف ألف وستون ألف ألف ففرق المهدي جميع ذلك حين أفضى الأمر إليه.