للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

هذا وقد كانت الفتن توالت ببغداد فخربتها فشرع عضد الدولة سنة ٣٦٩ في عمارتها فعمر المساجد والأسواق وأدر الأموال على الأئمة والعلماء والقراء والغرباء والضعفاء الذين يأوون إلى المساجد وجدد ما دثر من الأنهار وأعاد حفرها وتسويتها. ولكن هل وقف ذلك الأمير المسلم عند هذا الحد في عاصمة عواصم الإسلام؟ كلا فقد ذكر ابن الأثير في الكامل أنه أذن لوزيره نصر بن هاردن (وكان نصرانياً) في عمارة البيع والأديرة وإطلاق الأموال لفقرائهم. فكان المسلمون والنصارى في هذا الرخاء سواء. بل أن المجوس أنفسهم وهم لا ذمة لهم ولا كتاب نالوا من عدل الرجل وإنصافه ما خلدته الدفاتر مع الثناء الوافر. فقد وقعت في تلك السنة فتنة في شيراز بين عامة المسلمين وعامة المجوس فنهب الأولون دور مواطنيهم وضربوا وقتلوا جماعة منهم. فسير عضد الدولة من جمع له كل من له أثر في ذلك وضربهم وبالغ في تأديبهم وزجرهم لأنهم لم يراعوا حرمة الوطن والجوار.

ومما يدل على ارتباط المسلمين بأهل الذمة عند حلول الشدائد بهم جميعاً ما وقع سنة ٦٤٠ في ملطية بآسيا الصغرى عند هجوم التتار وتوالي نكباتهم بالأرض وبأهل الأرض. فإن المسلمين والنصارى اجتمعوا في البيعة الكبرى وتحالفوا أن لا يخون بعضهم بعضاً ولا يخالفوا المطران في جميع ملا يتقدم إليهم من مداراة التتار والقيام بحفظ المدينة والبيتونة على أسوارها وكف أهل الشر عن الفساد.

وفي حدود سنة ٦٥٦ هجرية أزاح التتار أميراً مسلماً عن ملطية فلما رحلوا عنها رجع هذا الأمير إليها واسمه علي بهادر. فأغلق أهلها الأبواب في وجهه ولم يمكنوه من الدخول خوفاً من التتار. فشدد عليها الحصار حتى ضجر الناس وضاقت بهم الحيلة. ففتح له العوام أحد البواب فدخل المدينة عنوة. وكان أول همه أنه لم يتربص حتى يجيء الصباح فأصعد بالليل على المنابر جماعة ينادون ويقولون: إن الأمير قد أمن الرعية النصارى منهم والمسلمين فليخرج كل واحد إلى عمله ودكانه وليشتغل ببيعه وشرائه فإنما كلامه مع الحكام.

ولنرجع إلى ذكر الأفراد لنشير إلى مقدار عناية ملوك الإسلام بفضلاء النصارى واحتمالهم منهم ما لا يمكن أن يتصوره عقلنا في هذه الأيام. فقد روى التاريخ أن يوحنا بن ماسويه الذي أشرنا إليه فيما سبق كان مع الخليفة العباسي الواثق في دكان (أي دكة مبنية للجلوس