الذين كان يدر عليهم الأرزاق لتنوير الأذهان بل رأى أن لهذا الصابئ حقاً عليه بهذا الجوار فوصله بالخليفة المعتضد وأدخله في جملة المنجمين فظهر فضله حتى بلغ عنده أجلَّ المراتب وأعلى المنازل وكان يجلس بحضرته في كل وقت ويحادثه طويلاً ويضاحكه والخليفة يقبل عليه دون وزرائه وخاصته.
وقريب من ذلك ما وقع في مصر إذ التجأ إليه موسى بن ميمون اليهودي المشهور بعد ما أكره في الأندلس على الإسلام فأظهره وحفظ القرآن واشتغل بالفقه وأسرًّ اليهودية حتى إذا ما تحين الفرصة خرج إلى مصر في أواخر أيام الفاطميين فلما استقر الأمر فيها لصلاح الدين الأيوبي أخذه القاضي الفاضل (عبد الرحيم بن علي البيساني) تحت حمايته واشتمل عليه وقدر له رزقاً من خزينة الدولة لما رآه فيه من العلم الواسع والفضل الكامل. فإنه كان أوحد زمانه في صناعة الطب علماً وعملاً وكان متفنناً في العلوم وله معرفة جيدة بالفلسفة وكان الناصر صلاح الدين وولده الملك الأفضل يجلان قدره كثيراً ويعتمدان على رأيه في الطب وقد تولى الرياسة العامة على جميع اليهود بديار مصر. ولقد ابتلي موسى هذا في آخر زمانه برجل من الأندلس فقيه يعرف بأبي العرب وصل إلى مصر وحاققه على إسلامه وإلزام أذاه فمنعه عنه القاضي الفاضل وقال له: رجل يُكره على الإسلام لا يصح إسلامه شرعاً. وقد مدحه القاضي السعيد بن سناء الملك فقال:
فلو أنه طبَّ الزمان بعلمه ... لا يراه من داء الجهالة بالعلم
ولو كان بدر التم من يستطبه ... لتم له ما يدعيه من التم
وداواه يوم التم من كلف به ... وأبرأه يوم السرار من السقم
وأفادنا التاريخ أن الفارابي وهو المعلم الثاني (لأن المعلم الأول هو أرسطو طاليس) دخل العراق واستوطن بغداد وقرأ بها العلم الحكمي على يوحنا بن حيلان النصراني وأنه هو أقرأ يحيى بن عدي النصراني اليعقوبي الذي انتهت إليه رياسة أهل المنطق في زمانه. وقيل أن ابا سهل عيسى بن يحيى المسيحي الجرجاني وهو معلم الشيخ الرئيس ابن سينا صناعة الطب وإن كان الشيخ الرئيس بعد ذلك تميز ومهر فيها وفي العلوم الحكمية حتى صنف كتباً للمسيحي وجعلها باسمه. هذا وأنتم تعلمون أن يحيى بن عيسى بن جزالة