للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

يظن الفرنسيس أن إقليم البلاد الشمالية البارد الذي يتخلل سكوته حزن مهيب يلد أناساً قد لعبت بهم الهموم وتقسمتهم الغموم على العكس في إقليم البلاد الجنوبية الزاهر المستنير بأشعة الشمس المشرقة فإنه يلد عنصراً خفيفاً أرعن. والحال أن عكس هذا في الغالب واقع في ألمانيا ولا سيما في الجنوب فإن في صحاري سواب الخصبة المعشبة وفي الكروم التي تروى بنهري الرين وموزل قد نشأت عقول واسعة رصينة وفي وسعها أن تحيط بالعالم بأسره. والشعراء الذين نبغوا ثمة قد تغنوا بماهية حياة الجرمان وحقيقتها بأناشيد لطيفة خفيفة غير أنها ثقيلة الأوزان. أما في الأنحاء الشمالية فإن صحاري بوميوراينا وبراندنبورغ المبتورة حدودها قد أنشأت قادة عاملين وساسة جسورين وكانت هنا حتى الأدبيات تلعب بها أميال الحرب والجدال وسرعان ما كانت تدخل في شكل المعارضة.

مومسن هذا من نابته ذاك الجنس إذا رأيته رجلاً مقداماً إن تحرك فكأنما يتهيئ لعمل جديد. وإنه بسيمائه العصبي الذي ينم عن كل خير وعينيه اللتين تبرق منهما أشعة الحيلة والمكر وشفتيه اللتين ترتسم عليهما ابتسامة الاستخفاف والاستهزاء يذكر بفولتير العظيم وهو ببعض أطواره المنبعثة منها عوامل القسوة والغدر حتى في حالة السرور والنشاط وبوجهه الذي نال منه المقراض فلم يبق ولم يذر أشبه بمولتكه القائد حذو القذة بالقذة. أما سيماؤه الذي يتراءى من خلال مصنفاته فهو عبارة عن شخصية غريبة مؤلفة من طبيعة متسرعة منفعلة متوقدة أي من حدة المزاج ممزوجة بطبيعة أخرى حقيقية ماهرة في استخراج المغالطات المادية العملية ونفخ المناطيد التي وسع نطاقها حب التفاخر والغرور.

في مومسن شخصان لا يجتمعان كل الاجتماع ولا يفترقان: عالم وصانع. ولا شبهة في أن العالم مومسن هو من خوارق القرن التاسع عشر ومن أعظم من هم جديرون بالتجلة والاحترام فإن معارفه وسعة اطلاعه منوعة تنوعاً غريباً وإنك لترى مجلته التي رأسها خمسين سنة وطاباً حفل بما لا يكاد يتناهى من الكتابات في تلك الموضوعات المختلفة كآثار رومية القديمة وعلم الألسنة وعلم المخطوطات وعلم المسكوكات والحقوق وعلم الأساطير هذا عدا () العظيم الذي جمع فأوعى من التدقيق والتحقيق العلمي الواسع وغزارة المادة وجودة المصادر مما أهله لبلوغ أقصى درجات الارتقاء. ولقد كانت للمترجم به ملكة كبيرة وقدرة باهرة في قراءة الألسنة القديمة الميتة ومؤلفاته برمتها شهادة ناطقة بالبرهان