في عصرنا هذا فمثال ذلك أننا عرفنا أن السيدة سكينة المدفونة بمصر القاهرة كان مهرها ألف ألف درهم (خمسين ألف ليرة فرنساوية تقريباً) وعلمنا أنها ولدت الرباب فكانت تلبسها اللؤلؤ وتقول ما ألبسها إياه إلا لتفضحه. وكان مجلسها بالمدينة كعبة للأدباء والشعراء وأخبارها معهم أشهر من نار على علم وخصوصاً مع الفرزدق.
هذا من الأمور الخصوصية الداخلية وأما الأمور العمومية فقد علمنا منها مثلاً أن الخليفة الأموي هشام كان إذا صلى الغداة بجامع دمشق فلول من يدخل عليه صاحب حرسه فيخبره بما حدث في الليل. ثم يدخل عليه موليان له مع كل واحد منهما مصحف فيقعد أحدهما عن يمينه والآخر عم شماله حتى يقرأ عليهما جزأه ثم يقومان فيدخل الحاجب فيقول فلان بالباب وفلان فيقول ائذن فلايزال الناس يدخلون عليه حتى إذا انتصف النهار وضع الطعام ورفعت الستور ودخل الناس وأصحاب الحوائج وكاتبه قاعد خلف ظهره فيقوم أصحاب الحوائج فيسألون حوائجهم فيقول لا ونعم والكاتب خلفه يوقع ما يقول حتى إذا فرغ من الطعام وانصرف الناس صار إلى قائلته فإذا صلى العصر دعا بكتابه فناظرهم فيما ورد من أمور الناس فإذا كانت العشاء الآخرة ثم اختلى بسماره من رجال العلم والأدب.
واتفق أنه بعد أن صلى العشاء الآخرة وأقبل سماره كعادتهم جاءه الخبر بأن خاقان ملك الترك خرج بأرمينية فنهض في الحال وحلف لا يؤويه سقف حتى يفتح الله عليه.
بمثل هذا التدوين عرفنا أيضاً كيف كان الخليفة العباسي يجلس للناس ويشتغل بأمور الدولة فقد كان المنصور العباسي مثلاً يشتغل صدر نهاره بالأمر والنهي والولايات وشحن الثغور والأطراف والنظر في الخراج والنفقات ومصالح الرعية فإذا صلى العشاء نظر فيما ورد عليه من كتب الثغور والأطراف وشاور سماره وكان ولاة البريد يكتبون إليه كل يوم بسعر القمح والحبوب والأدام وسائر المأكولات. ويحيطونه علماً بكل ما يقضي به القاضي في نواحيهم وبما يرد إلى بيت المال وعلى العموم بما يتجدد من الحوادث في دائرة إدارتهم. فينظر في كتبهم بعد صلاة المغرب فإن رأى تغيراً في الأسعار كتب إلى العامل يسأله عن العلة ومتى ورد الجواب تلطف حتى يعود سعر ذلك البلد إلى حاله. وإن شك في شيءٍ مما قضى به القاضي كتب إليه في ذلك فإن أنكر شيئاً كتب إليه يوبخه ويلومه فإذا مضى ثلث الليل قام إلى فراشه وانصرف سماره فإذا مضى الثلث الثاني قام من فراشه فتوضأ وتبوأ