أبعد عنها كثيراً ولم يأته المدد فذهب فريسة إقدامه الهائل ولا شك أنه فخر لأهل الشام لأنه فينيقي والفينيقيون من الشام.
دار الزمان دورته وجاء المجد للعرب فابتدأت تجارتهم بالصعود وكانوا يقصدون الفتوح والتوسع في الملك بواسطة التجارة ولذلك كان الخليفة العباسي يهدد أهل الهند إذا أقفلوا باب التجارة أمام تجار بغداد والشام.
لكن الهنديين حرفوا اسم الكوفيين وسموهم (كوكل) وكذلك أتاها جماعة هربوا من الحجاج أيام تجبره على الذين يرغبون في مناوأة السلطة المروانية وذلك أنه أجلى نفراً من قريش وكان فخر قريش قبل النبوة بالتجارة كما قال تعالى (لإيلاف قريش إيلافهم رحلة الشتاء والصيف) فلما أجلاهم ذهبوا عن طريق البحر إلى الهند فسماهم أهلها بالنوائت (النوتية) وبقوا فيها زمناً طويلاً حتى انتشروا انتشاراً هائلاً وهم الذين أسسوا الإسلام هناك.
فللتجارة إذن فضل كبير في انتشار الدين الإسلامي أيضاً. كان التجار يذهبون إلى شطوط أفريقية فيرى أهلها من حسن معاملتهم وعظم أخلاقهم ما يزهدهم في دينهم رغبة في انتحال الإسلام ولذلك لم ينجح كثير من النصارى كما نجح تجار الإسلام. فالتجارة هي أساس العمران والتاجر أساس نجاحه الأمانة والصدق في الأخذ والعطاء.
لما دالت الدولة في دمشق وانتقلت إلى بغداد اختار المنصور الموقع التجاري لبناء العاصمة الكبرى وهي بغداد التي قال عنها علماء العرب: إن العراق سرة الدنيا وبغداد سرة العراق فبغداد سرة الدنيا.
كان كرسي الدولة العباسية عند أول قيامها في الكوفة ثم صار في الهاشمية ثم في الأنبار لكن الخليفة رأى عاصمة بلاده في موقع غير تجاري فأراد أن يجعلها في أهم مركز تجاري لتكون مضمونة البقاء على الدوام ولذلك أرسل الرسل ليقفوا على الجهة المطلوبة فاختاروا البقعة التي أقيمت فيها بغداد قائلين للخليفة: هنا تجيئك الميرة من المغرب وطرائف مصر والشام عن طريق الفرات وتجيئك في السفن من الصين والهند عن طريق دجلة. وتجيئك الميرة من الروم وآمد والجزيرة والموصل في دجلة وتجيئك الميرة من أرمينية فما فوقها عن طريق الزاب وأنت بين أنهار لا يصل عدو إليك إلا على جسر أو قنطرة فإذا قطعت الجسر وأخربت القناطر لا يصل إليك عدوك وهو محتاج لعبور دجلة