للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والفرات وهما خندقان طبيعيان لبلدة أمير المؤمنين.

فأمر بحشر الصناع والفعلة من الشام والموصل وفارس والكوفة وواسط والبصرة واختار قوماً من أهل الدين والعدالة والمعرفة والهندسة فوكل إليهم أمر العمال وكان فيهم الحجاج بن أرطاة المهندس وأبو حنيفة ابن ثابت الفقيه (وإنما اختار أبا حنيفة لأن المنصور أراد أن يولي أبا حنيفة القضاء فامتنع فضربه فامتنه فحلف أنه لا بد أن يوليه عملاً ولذلك أمره بأن يتولى الطوب واللبن ليبرّ بقسمه) وأمر بتخطيط المدينة كلها فلما تم تخطيطها بالرماد أقبل يدخل من كل باب ويمر في طرقاتها ورحابها فرآها وافية بما تميل إليه النفس فوضع أول حجر بيده قائلاً: بسم الله وبالله والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ثم قال للعمال: ابنوا على بركة الله. وعند البناء أمر بطبخ الطوب الأحمر (الآجر) وكان يعد على يد أبي حنيفة بالملايين فاستدعى لذلك وزيره جعفر البرمكي وقال له ما رأيك في هدم إيوان كسرى لجلب أنقاضه واستعمالها في البناء فأجابه الوزير: إنه رأي غير صائب لأن الإيوان من آثار الفرس وهذا البناء الذي تقيمه الآن من آثار الإسلام ينبغي أن لا يدخل فيه أثر لغيرهم. فقال له الخليفة: أخذتك النعرة لقومك وحننت إلى العجم فأردت أن تمنعني عن ذلك. ولم يعبأ بقول وزيره وأرسل فعله فنقضوا بغضه وأتوا به إلى بغداد فحسبوا النفقة فوجدوها تزيد بكثير على استحضار أدوات جديدة ولذلك رأى الخليفة أن الأولى جلب الطوب الأحمر الجديد وحينئذٍ استدعى جعفر ثانياً وسأله في ذلك قائلاً: أريد أن أجلب الأحجار من الجبال لا من أنقاض الإيوان فأجابه الوزير: لا تفعل ذلك يا أمير المؤمنين بل ثابر على ما باشرت به لئلا يقال أن ملك الإسلام عجز عن نقض ما بناه ملوك الأكاسرة رأى المنصور أن الكلام صواب ولكن لا يمكنه العمل به لأن المدينة تجارية اقتصادية فلم يسمع قول وزيره.

استمرت دولة العرب على هذه الحال من الترقي في العلم والتجارة في آن واحد والتجارة من فرنسا وروسيا وبريطانيا إلى الهند وغيرها كلها عن طريق بغداد حتى دالت الدولة منها وانتقلت إلى الأندلس فكان للتجارة فيها رقي عظيم لكن أهلها أصبحوا بعد مدة مثل الأعواد التي ذكرتها لكم فدالت دولتهم بسبب التفرق والانقسام.

قامت على أنقاضهم دولة إسبانيا وسعت حتى رقيت بما اكتسبته من علوم الشرقيين وكذلك