كانت أوربا في منتهى التوحش حين كانت بغداد في أوج الحضارة حتى أن تجار العرب لما ذهبوا لاستحضار العنبر من شلسويج وصفوا أهلها بأنهم وحوش عراة لا يسترون عوراتهم إلا بقطع من الجلود (ذكره القزويني في آثار العباد وأخبار البلاد) هذا وصف أحد سياح العرب لتلك الدولة التي هي اليوم في أرقى درجات الحضارة.
تنبهت أوربا من رقدتها باختلاطها مع العرب شرقاً في الشام وغرباً في الأندلس فجمعت الزبدة والخلاصة النافعة من مدنية اليونان والرومان وضمت إلى ذلك ما أخذته من احتكاكها بالشرق أيام الحروب الصليبية فتولدت لديها الحضارة. دخل أحد أمرائها في زمن الحرب الصليبية أحد الحمامات في فلسطين (صور أو صيدا) فاستعمل معه الحمامي النورة فاستعجب الأمير من ذلك وخرج في الحال فأتى بامرأته وقال له افعل معها كمافعلت معي. في تلك الأيام كان تعليمهم مبنياً على أسس العرب مثل كتب ابن سينا والفارابي وابن رشد وغيرها مما ترجموه إلى لغاتهم.
كانت هذه الحركة أول مبدأ لترقيهم بعد أن كانوا عبيداً لقليل من السادة وكانت أوربا ملكاً لأفراد من الملوك. كان السكان عبيداً لهؤلاء السادة فإذا بيعت الأرض بيعت رجالها وحيواناتها وكل شيء معها حتى كان للسادات حق التفخيذ أي أن لا تزف العروس حتى يأخذها الرئيس.
فباختلاطهم بأهل الشرق دفعوا هذه الوصمة عنهم وقامت لديهم شبه حكومات ابتدائية في تلك البلاد ثم عثروا على مصنفات اليونان فصاروا يأخذون عنها مباشرة بعد ما كانوا يأخذون عن العرب واستمروا على هذه الحالة لكن هبت عليهم نفحة من الأفكار الصائبة التي اكتسبوها من المسلمين فأخذوا بالتجارة مع القوم ودرس علومهم بإتقان غير أن ضغط الملوك وخصوصاً الباباوات باسم الدين كان سبباً لتفرقهم على بعضهم إذ كان التعصب آخذاً منهم مبلغاً عظيماً. ومع ذلك فقد أوجدت شدة الضغط أفراداً نوابغ كسروا قيود الاستعباد وفكوا أغلال الجمود مجاهرين بالحرية فكان من أجل ذلك ما كان من أمر ديوان التحري القسيسي وواقعة القديس برثلماوس بين البروتستانت والكاثوليك وواقعة صلاة العصر في صقلية حيث قام الناس بعضهم على بعض. ولذلك اضطر أرباب الأفكار الحرة