حكمها زمان بربرية على الدوام لأن المدنية لا تقوم إلى على مبادئ مقررة ونظام ثابت وانتقال من العمل بمقتضى الغريزة إلى الاهتداء بنور العقل والبصر بالمستقبل ومرتبة راقية من العلم والتهذيب وتلك وسائل برهنت الجماعات على أنها غير أهل لتحقيقها إذا تركت وشأنها ـ ومثل الجماعات في قوتها الهادمة مثل المكروبات التي تعجل بانحلال الأجسام الضعيفة وتساعد على تحلل الأجساد الميتة فإذا نخرت عظام مدنية تولت الجماعات نقض بنائها هنالك يظهر شأنها الأول ويخيل لنا بادئ بدء أن العامل في حوادث التاريخ هو كثرة العدد، إنا لنخشى أن يكون هذا أيضاً مصير مدنيتنا لكن ذلك الذي لا نعرف منه شيئاً حتى الآن. . . .
معرفة روح الجماعات أصبحت اليوم آخر ملجأ يأوي إليه السياسي العظيم لا لأجل أن يحكمها فقد صار ذلك الآن صعباً كثيراً بل ليخفف عنه شدة تأثيرها، وإذا أردنا أن نعرف ضعف تأثير القوانين والنظامات في الجماعات فإنما السبيل إلى ذلك تدقيق البحث لمعرفة روحها والوقوف على أحوالها النفسية وبذلك نفقه أيضاً أنه لا قدرة لها على تكوين رأي أو التفكير في شيءٍ خارج عن الدائرة التي رسمت لها وأنها لا تقاد بقواعد العدل النظرية بل بالبحث عما من شأنه التأثير فيها أو اختلابها.
فإن الجماعات لا تعرف من المشاعر إلا ما كان متطرقاً بسيطاً وهي لذلك لا تقبل ما يلقى إليها من الآراء والأفكار والمعتقدات بجملتها أو ترفضها كذلك فتأخذها حقائق مطلقة أو ترغب عنها أباطيل مطلقة على أن هذا هو الشأن في المعتقدات التي تتحصل من طريق التلقي لا التي تتصل بالإنسان من طريق النظر والتعقل وكل يعرف ما للمعتقدات الدينية من التأثير في عدم احتمال المخالف ومن السلطان على النفوس.
ولما كان باب الشك غير مفتوح أمام الجماعة في كل ما اعتقدت أنه حق أو باطل وكانت تشعر شعوراً تاماً بقوتها كانت إمرتها متساوية لعدم احتمالها، يطيق الفرد المناظرة والخلف أما الجماعة فلا تطيق ذلك أبداً وأقل خلف يأتي به الخطيب الذي يتكلم في المجتمعات العمومية يتلقاه السامعون بأصوات الغضب والسباب الشديد فإن أصر فنصيبه الإهانة والطرد بلا إمهال ولولا الرهبة من رجال الشرطة الحاضرين لقتلوه أحياناً. . . . .
والمؤلف يكرر بعض الأفكار ولعله عن قصد لترسخ في النفوس وربما حذا كما قال في