للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

إن امتاز الفرنسيس بالإبداع في الصناعات فقد امتازوا أيضاً بنضرة الوجوه. وإلى باريز تحمل هذه الأمة ولا سيما في فصل الشتاء أفضل ما عندها من مجالي الكمال والجمال أيام تكون أم هذه القرى مقصد السائحين والمتجرين والطالبين والعالمين والسياسيين والخاطبين وتغص دواوينها وإداراتها وتلتئم مجالسها العلمية والسياسية والاجتماعية.

ويزيد الوجوه بهجة في باريز تفنن القوم في الأزياء وتغاليهم في التبرج والزينة تغالياً مهما تقدم عند غيرهم لا يزالون مصدره ومورده وأساتذته وسدنته. ومظاهر الأزياء تتجلى في باريز بعد الغروب على الجادات والشوارع والطرق والساحات وفي المركبات والسيارات وحوافل الخيل والكهرباء والسكك الحديدية فوق الأرض وتحتها وفي دور التمثيل ومسارح اللهو والطرب وحال الفرج والحانات والقهوات والمطاعم والفنادق ويزيدها فتنة للناظرين ما اعتاده الباريزيات إلا من عصم ربي من إبداء زينتهن لغير المحارم أكثر من إبدائها لبعولهن وذوي قرباهن ورنين أصواتهن في الكلام رنيناً تحسبه من مزامير داود وتستطيبه أكثر من تغريد العندليب وهناك الفتنة بعينها والفتنة أشد من القتل ونعوذ به تعالى من فتنة القلب وفتنة العين.

ولعل هذه المجالي في الحرية المفرطة حملت الكثير من الغرباء على نزول باريز ليشهدوا فيها مالا يشهدونه في غيرها وتربح منهم الليرات بالملايين والكرات عملاً بما قاله أحد ملوك بروسيا وقد قيل له ليس من اللائق أن تضرب ضريبة على محال الاطمئنان في الشوارع فقال الغاية تبرر الوسيلة فما دامت الغاية الكسب فلا بأس من الاحتيال لنيله ومن أجل هذا تظهر باريز بعد الغروب أقصى الفضيلة وأقصى الرذيلة والناس معهما وما يختارون.

بعد الغروب تعمر في باريز أندية الخطابة والمحاضرة والعلم وتلقى فيها من الفوائد ما يبلغ الأذهان عفواً وصفواً ويفيض معين البيان ويبدو حذق يد الإنسان ويسعى العالم إلى تعليم الجاهل في ساعة ما تعب في إحضاره الأيام والأعوام فمائدة الخطب والمحاضرات معروضة. ودروس الفضائل عامة مورودة.

بعد الغروب يعمل معظم الكاتبين كتبهم والشاعرين أشعارهم والمؤلفين مؤلفاتهم والمخترعين اختراعاتهم والصانعين كأن الأفكار لا تنطلق من عقالها والأيدي لا تحذق