والرابعة طبقات أصحاب الترجيح كالقدوري وصاحب الهداية القادرين على تفضيل بعض الروايات عَلَى بعض بحسن الدراية.
والخامسة طبقات المقلدين القادرين على التمييز بين القوي والضعيف والمرجح والسخيف كأصحاب المتون الأربعة المعتبرة.
والسادسة من دونهم الذين لا يفرقون بين الغث والسمين والشمال واليمين.
لما اتسعت دائرة الفتح وانتشر الإسلام في الممالك القاصية وتفرق حفاظ الشريعة ورواتها في الأنحاء مع اتساع دائرة القضاء بازدياد وسائل الحضارة واستبحار العمران وتجدد الحوادث التي يقتضيها تشعب المعاملات وحال الأمم الداخلة في الإسلام من غير العرب ولهذا خيف من تشتت أحكام الشريعة ودخول الفوضى في القضاء والإنشاء احتيج بالضرورة إلى أمرين مهمين: الأول تدوين الشريعة في الكتب. والثاني وضع قواعد للتفريع عن أصول الشريعة لتطبيق الحوادث التي تحدث في أحكام المعاملات عَلَى قوانين الشرع. وأول من تنبه للحاجة إلى هذين الأمرين عَلَى ما أظن عمر بن عبد العزيز الخليفة العادل الأموي وسداً للحاجة الأولى أمر الزهري من جلة التابعين وحفاظهم بتدوين الحديث في دفاتر وتوزيعها عَلَى الأمصار في أواخر القرن الأول ففعل كما هو مشهور معروف.
أما الحاجة الثانية فقد شعر بها ولكن سدها بعده الأئمة المجتهدون بدليل ما روي عن الإمام مالك بن أنس أنه قال عمر بن عبد العزيز: يحدث للناس من الأقضية بقدر ما يحدث لهم من الفجور.
أدرك هذا عمر بن عبد العزيز وأدركه الأئمة المجتهدون من بعده مالك والشافعي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم من أئمة المذاهب التي لم يبق لها أتباع لهذا العهد كداوود الظاهري وغيره وكأئمة الشيعة الذين يعمل بمذاهبهم إلى اليوم زيد بن علي وجعفر الصادق وغيرهم فلم يكتفوا بتدوين السنة في الدفاتر والكتب بل رأوا الحاجة تدعو إلى البيان والتفصيل والتفريع والترتيب فعمدوا إلى النظر في أصول الشريعة من الكتاب والسنة فاستخرجوا منها الأحكام ووسعوها ورتبوها ودونوها كل على أصول مذهبه وقواعده وأصول الاجتهاد المعروفة في كتب الأصول فضبطوا بذلك قوانين الشرع بما بلغه اجتهادهم وأدى جهدهم فكانت كتب كل مذهب شرعاً يعمل به أتباعه إلى اليوم.