أحسنت هذه المكتبة بنشر هذا السفر النفيس على أسلوب راقٍ شأنها في كل ما نشرته حتى الآن وقد صدرت الكتاب بترجمة الرئيس عن أصح المصادر فجاءت الترجمة في ٣٨ صفحة وهي من أحفل تراجم الرئيس. أما الكتاب والقصيدة فهما في الغاية من السلاسة والوضوح بحيث يسهل على من لم يدرس هذا الفن على أسلوبه أن يتلقفه بنفسه من هاتين الرسالتين ولا عجب فكلام الرئيس رئيس الكلام. وهاك ما قاله المؤلف في ذكر العلوم ننقله نموذجاً لمن لم يسعده الحظ بقراءة شيءٍ كثير من قلم الرئيس وعنواناً على كيفية تقسيمهم العلوم في عهده قال: إن العلوم كثيرة والشهوات لها مختلفة ولكنها تنقسم أول ما تنقسم قسمين: علوم لا يصلح أن تجري أحكامها الدهر كله بل في طائفة من الزمان ثم تسقط بعدها أو تكون مغفولاً عن الحاجة إليها بأعيانها برهة من الدهر ثم يدل عليها من بعد. وعلوم متساوية النسب إلى جميع أجزاء الدهر وهذه العلوم أولى العلوم بأن تسمى حكمة.
وهذه منها (أصول) ومنها (توابع وفروع) وغرضنا ها هنا هو في الأصول وهذه التي سميناها توابع وفروعاً فهي كالطب والفلاحة وعلوم جزئية تنسب إلى التنجيم وصنائع أخرى لا حاجة بنا إلى ذكرها.
وتنقسم العلوم الأصلية إلى قسمين أيضاً: فإن العلم لا يخلو إما أن ينتفع به في أمور العالم الموجودة وما هو من قبل العالم ولا يكون قصارى طالبه أن يتعلمه حتى يصير آلة لعقله يتوصل بها إلى علوم هي (علوم أمور العالم وما قبله). وأما أن ينفع به من حيث يصير آلة لطالبه فيما يروم تحصيله من العلم بالأمور الموجودة في العالم وقبله.
والعلم الذي يطلب ليكون آلة_قد جرت العادة في هذا الزمان وهذه البلدان أن يسمى (علم المنطق) ولعل له عند قوم آخرين اسماً آخر لكننا نؤثر أن نسميه الآن بهذا الاسم المشهور.
وإنما يكون ذا العلم آلة في سائر العلوم_لأنه يكون علماً منبهاً على الأصول التي يحتاج إليها كل من ينتقض المجهول من المعلوم باستعماله للمعلوم على وجهة يكون ذلك النحو وتلك الجهة مؤدياً بالباحث إلى الإحاطة بالمجهول فيكون هذا العلم مشيراً إلى جميع الأنحاء والجهات التي تنقل الذهن من المعلوم إلى المجهول. وكذلك يكون مشيراً إلى جميع الأنحاء والجهات التي تضل الذهن وتوهمه استقامة مأخذ نحو المطلب من المجهول ولا يكون كذلك. فهذا هو أحد قسمي العلوم.