للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وأما الدين الثاني الذي لنا على فرنسا فيرجع إلى عهد قريب منا وبيان ذلك أن القائد بونابرت عند هجمته على مصر في فجر القرن الماضي على التاريخ الميلادي نهب كثيراً من بقايا الكتب النفيسة التي كان أجدادنا أخفوها أو وجدوها بعد الفتح العثماني. وكل من ذهب إلى باريس واطلع على فهرس دار الكتب الأهلية فيها يأخذه العجب والعجاب إن لم تساوره الأشجان والأحزان. فلقد أصبحنا إذا احتجنا إلى شيء من مؤلفات المصريين الخاصة بمصر لا نرى منها شيئاً في بلادنا ولا بد لنا من الرحلة والتغرب لتطلبها في بلاد الغرب.

ولقد أدرك محمد علي ذلك عندما أراد أن يجدد العلم في ربوع مصر فأرسل نفراً من نابغي الأزهر الشريف فعادوا وأفادوا جدد الله عهدهم. ورافع رايتهم هو المرحوم رفاعة بك فطالما أنشأ وأنشد وصنف وألف وترجم وعرب وكلنا عيال عليه وعلى أولاده.

اعلموا أن للعرب والإسلام سراً عجيباً في تاريخ الحضارة والعمران. فالعرب أينما حلو انتشرت لغتهم قليلاً قليلا ثم سادت رويداً رويدا ثم انتهى أمرها بالانفراد والاستقلال. كذلك الإسلام أينما انتشرت رايته استهوى العقول والألباب. ولكن الغريب أن العجم هم الذين ينشرون علوم العرب ودين العرب حتى لقد قال الخليفة الأموي سليمان بن عبد الملك: عجبت لهذه الأعاجم ملكت الدهر فلم تحتج إلى العرب وملكت العرب فلم تستغن عنهم. وماذا كان يقول هذا الخليفة ودولته أموية عربية محضة: وماذا كان يقول لو عاش حتى رأى عصر العباسيين أو لو بعثت من قبره هذه الأيام ورأى حاجة العرب إلى الأعاجم في كل شيء من مرافق الحياة وحاجتهم إليهم حتى في إحياء آثارهم والتهافت على اقتناء مآثرهم.

ماذا كان يقول لو علم بالقصة الآتية؟

تعلمون أن التتار هم الذين خربوا دولة العرب ودكوا معالم الإسلام ومع ذلك فمن أغرب الغرائب وأعجب العجائب أنهم ما لبثوا أن دانوا بدين العرب المغلوبين وتشبهوا بملوكهم البائدين في إحياء العلوم وتوسيع نطاق العمران. سر من أسرار الطبيعة لا نراه إلا في شؤون العرب ومعارفهم. فبعد أن هلك هولاكو وبعد أن مارت الأرض تيمور فأدخلته في تامورها جاء أحفادهما فدخلوا في دين الله أفواجاً وأقوامهم وارتفع بهم مناره في بلاد آسيا