للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وهذه هي الحاكمة المتحكمة في تكوين أخلاقه ولكن هذا الزعم فاسد لأن الدلالة عَلَى تأثير التربية وفعلها في تغيير الطباع أمر لا ينكره مفكر. قالوا أن العادة طبيعة ثانية ومن المحقق منه أنه إذا كانت للمرء طبيعة وهذه الطبيعة متحولة بالعادة فهو من بين سائر الحيوانات خاضعة للتأثيرات الخارجية الكثيرة المنوعة التي لها الفعل الأكثر في هذه الأسباب والتخلق بها واحتذاء مثالها فإن الحس الحي اللطيف وتركيب المرء اللدن المرن المستعد بدون عناءٍ لجمع أنواع التكون وقوة الحافظة التي هي طبيعية في المرء وبها يعتاد العادات عَلَى أيسر وجه كل هذا يجتمع ليكون أخلاقاً ومظاهر في المرء متشابهة لما يحيط به من الأخلاق والأشكال وما يحفه من الأجسام. وهذا هو جملة القوى العظمى في التربية الطبيعية ومنها تنشأ في الحال التربية الأخلاقية وبذلك يكون المرء قابلاً للكمال إلى ما لانهاية له ويستطيع القيام بكل أمر.

ويعتدل النظام الحيواني بالعادة خاصة فهي بطول الزمن تؤثر التأثيرات النافعة والتأثيرات الضارة. فتركيب الإنسان خاصة يستعد أن يظهر في كل من المظاهر. والمرء يستطيع أن يألف تناول السم وربما صعب عليه الإقلاع بعد من عادة كان ألفها بالتمرس بها والرجوع من القبيح إلى الأحسن فسكان البلاد الرديئة الهواء قد لا تجود صحتهم أبداً في بلاد أجود بهوائها فالمصابون بالربو (ضيق التنفس) الذين تناسبهم الأماكن الشاهقة في العادة قد يرون حاجتهم ماسة إلى هواء كثيف ثقيل كانوا اعتادوه أيام صحتهم والهواء الشديد قد يزيد أوجاعهم ويحدث لهم اختناقاً مدهشاً ولقد رأينا سجناء خرجوا من محابسهم ومطابقهم العفنة أقوياء أشداء بعد أن قضوا مدة طويلة مسجونين بجرائمهم ثم ضعفوا وهزلت أجسامهم من الهواء الطلق ولم تعد إليهم صحتهم إلا بعد أن ارتكبوا جنايات أخرى أعاداتهم إلى مطابقهم الأولى التي أصبحت لهم كأنها مساقط رؤوسهم.

وهكذا ففي الواسع أن تدخل عَلَى الطبيعة تعديلات أصلية كثيرة ويمكن تجديدها وقلبها والأخذ بها في طريق غير طريقها وذلك بالعادة. ثم أن الطبيعة خاضعة لجميع المؤثرات وقابلة لاعتياد أنواع العادات فهي_خلافاً لما يقال_مرنة قابلة للتحول لا تظل عَلَى حال واحدة بل تفعل فيها الأخلاق والتقاليد ومؤثرات المحيط والعادات الشخصية. وقد قال أحد علماء التربية أن للمرء مزاجين طبيعي أو أصلي وكسبي فالأول ينشأ من مزاج الإنسان