بولونيا فإن ملوكها حموا حمى الصنائع النفيسة فكانوا يأتون من إيطاليا بالبنائين والنقاشين المصورين حتى جاراهم البولونيون ونافسوهم في هذه الأعمال بعد.
ولكن الفتن التي استطار شرارها في القرنين الأخيرين سلب من نفوس البولونيين قرارها فهاموا على وجوههم بعد فقد استقلالهم في طول أوربا وأميركا وعرضهما وكثر منهم المهاجرون ولاسيما إلى أميركا الشمالية حتى قيل أنهم بلغوا نحو مليوني بولوني يحافظون إلى اليوم على لغتهم وآدابهم وعاداتهم القومية.
وللبولونيين غرام فائق في احتفاظهم بلغتهم وبتناغيمهم بتاريخهم فتراهم كلما طال المطال على تمزق ملكهم يحنون لاسترجاعه وتقوى عزائمهم على المطالبة به ولكن أوربا أو الساسة من أهلها قد قدت قلوبهم من حجر فلا تسمع لباك ولا تؤحم كل شاك. على أن البولونيين لم يعتمدوا بعد التجارب الكثيرة إلا على أنفسهم فكانوا وما زالوا يستعدون في بلادهم وخارجها للتربية الحربية حتى لا تزول منهم ملكة الكر والفر وقد أنشأوا لغرض الاستقلال جمعيات بثوا دعاتها في بلادهم وفي أوربا وأميركا يجمعون المال إلى أيام الشدة وهاذ المال يحفظونه في الغالب في فروع جمعياتهم في سويسرا وقد صرفوها كلها في الفتن الأخيرة التي ثارت في بولونيا الروسية عقيب حرب روسيا مع اليابان فكانت تأتينا أخبار فارسوفيا بفظائع البولونيين وشدة حكومة روسيا في قطع دابر الفتنة. وفي سويسرا أيضاً حفظ البولونيون تاج آخر ملكهم وصولجانه ونموذجاً من ألبستهم جعلوها في متحف خاص.
ولما انتشر ت الحرية بعض الشيء في روسية تنفس خناق البولونيين وقاموا يعيدون أمجاد آبائهم بمدارسهم ولم تنل روسيا مأرباً من نزع لغتهم وتلقينهم لغتها بالقوة بل عادت اللغة البولونية أكثر انتشاراً مما كانت قبل انقسام بلادهم ومن الغريب أن التشتت الذي أصاب أهلها والسعي الحثيث في معاملة مدارسها بالشدة في ألمانيا وروسيا لم تسفر إلا عن اندماج كثير من اليهود الجرمانيين في الجنسية البولونية لأن البولونيين من أقدر الأمم على جلب غيرهم إليهم كأن من خواص شعبهم أن يأخذ ولا يعطي.
كانت النمسا وما زالت أرفق الدول الثلاث الكبرى التي تقاسمت بينها بولونيا بهذه الأمة ولغتها وآدابها وعاداتها ولذلك كان إخلاص البولونيين لها أكثر من إخلاصهم للألمان