للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

على العكس من ابنك: ترى الواحد منهم كثير الرغبة والميل لتحصيل العلم متوفراً على الدرس والمطالعة جهده. لكنه ينقصه قوة الذكاء والفهم المتوفرة في ابنك. فيضيع عمره ولا يستفيد شيئاً من العلم. وإلا ليلق بمن كان كذلك_أي كان ذكياً لكنه كسول أو مجتهداً لكنه بليد_أن يدع طلب العلم ويأخذ عملاً آخر ينتفع به.

فامتعض الأستاذ وقال: من أين أتيت بهذه الفلسفة؟ يريد أنني تكلمت بكلام غير مفهوم. وهو ما يريدون بكلمة الفلسفة أحياناً. ثم عاد الأستاذ فشرح ما أوتيه ابنه من ذكاء وقوة حافظة وغير ذلك من المواهب والمزايا. هذا ما قصه الراوي علينا. وموضع العبرة فيه أن الأستاذ قد درس على زعمه علوم الأولين والآخرين ولكنه نسي علماً واحداً لم يوفق لدرسه مع أنه في أشد الحاجة إليه. ذلك العلم الذي هو علم التربية الذي هو فرض عين على كل أب عائلة. ومعلم مدرسة. وإذا زعم الأستاذ أن هذا العلم درسه في جملة ما درس. نقول له ولكنك لم تكن ذا استعداد وقابلية للانتفاع به. فيرد علينا بأنه على استعداد وقابلية لأنه ذكي وسريع الفهم. فنضطرب حينئذ إلى السكوت والصبر.

ومثل الأستاذ كثيرون يريدون أن يلزموا أولادهم بالتحصيل. ويكونون ضعيفي الميل والرغبة فلا يعتمون أن تمضي أعمارهم سبهللا. ويكون من جهة ثانية قد فات الوقت الذي يمكنهم فيه التدرب على الكسب وتوفير الثروة فيقضون حياتهم في البطالة والخمول وضيق ذات اليد.

ولو فطن أولياؤهم لحالهم من أول الأمر لربأوا بهم عن مثل هذا الموقف. وتخطوا بهم ما لا يطيقون من العلم إلى ما يطيقون من العمل. وأعانوا على الانتفاع بميولهم الخاصة. واستثمار مواهبهم الفطرية.

وأكثر ما يكون هذا الإغفال في بيوت العلم القديمة فإن الآباء فيها يحرصون على تنشئة بنيهم في العلم. وتعويدهم التحصيل منذ الطفولة. ويلزمونهم إياه بكل وسيلة. ولا يكون في كثير منهم ميل إليه. واستعداد له. فيقضون أعمارهم فيه. من غير أن يكون لهم نصيب منه. سوى القيافة الخاصة. عمامة وطيلسان. وجبة واسعة الأردان.

وهناك سبب آخر يحمل الآخرين على الاشتغال بطلب العمر من دون أن تتوفر فيهم القابلية له فلا ينالون حظاً منه: أولئك يريدون الفرار من الخدمة العسكرية وتضيق ذات