القول لا يخلو من مبالغة، والبرد في الناصرة شديدة في زمن الشتاء ولكن الهواء جيد جداً وكانت الناصرة في ذلك الزمن شبيهة بكل قرى اليهود يومئذ أي أنها كانت مؤلفة من منازل مبنية من غير هندسة ولا نظام ومنظرها شبيه بمنظر القرى الآسيوية وربما لم تكن منازل الناصرة تختلف عن المنازل الحجرية المربعة القائمة في جهات لبنان العامرة والتي إذا أضيفت إليها أشجار الكرمة والتين المغروسة بجانبها كان لها منها منظر رائق.
أما المكان الذي بنيت فيه الناصرة فإنه مكان شائق وليس في الدنيا كلها مكان أفضل منه للأمل في السعادة والراحة، ولا تزال هذه المدينة إلى اليوم مقاماً جميلاً، أما سكانها فهم قوم ألفوا اللطف والبشاشة وحدائقها باردة خضراء، وقد وصف انطونين مارتير الناصرة في أواخر القرن السادس عشر فشبه أرضها بأرض الجنة من فرط خصبها، ولا يزال في غربي المدينة أودية خصيبة ينطبق عليها وصفه.
أما العين التي كانت مركز الحركة في هذه المدينة وكان حولها السرور شاملاً فقد هدمت ولا يجري الآن من نبعها سوى ماء كدر وأما جمال النساء الناصريات اللواتي يجتمعن حولها في المساء من ذلك الجمال الذي كان مشهوراً عنه في القرن السادس عشر أن هبة للناصريات من مريم العذراء فإنه لا يزال يترقرق في وجوههن فهناك الشكل السوري الجميل في أتم خلقه.
ولا شبهة في أن العذراء كانت تقف في صباها بين أولئك النساء حول العين ومعها إناء الماء لتستقي منها، وقد قال انطونين مارتير أن نساء اليهود يكرمن المسيحيين في هذا المكان مع أنهن يكرهنهم كرهاً شديداً في غيره، فكأن هواء وطن السيد لطف أخلاقهن، وإذا نظرت في البغض الديني وجدته في هذا المكان أخف منه في سائر الأمكنة.
وأما منظر الأفق من المدينة فإنه قصير ضيق ولكنك إذا صعدت إلى الآكام المشرفة عليها انبسط أمامك منظر جميل يسحر الألباب، فإنه من الجهة الغربية يظهر لك جبل الكرمل ممتداً إلى البحر وداخلاً فيه ويليه غيره من الجبال بينها وادي الأردن وسهول بيريا المرتفعة، أما في جهة الشمال فإنك ترى جبال صفد متجهة نحو البحر وهي تستر عنك عكا وتظهر لك خليج حيفا.
مذ كان أفق يسوع، هذا كان في صباه المنظر الدائم أمام عينيه، هذا هو مهد ملكوت الله