عرف إلا بين جدران الهياكل حيث كانت تقيم طائفة من الناس تزعم أنها وارثة ايزيس واوزيريس وبعل وجوبيتر واللات والعزى وما لا يعد من الآلهة تسحر هذه الطائفة بما احتكرته من العلم عقول الشعب فتقوده حيث تشاء ولا تعطيه منه إلا بمقدار ما يستطيع مئات الألوف من البشر أن يبنوا هيكلاً للشمس أو قبراً لابن الشمس مكرهين مسخرين.
إن أطلال تلك الهياكل الفخمة وبقايا تلك القبور الهائلة الماثلة إلى اليوم تدل على أن ذلك النور الضئيل الذي كان ينبعث من وراء جدران الهياكل إنما كان من أجل الهياكل لا من أجل الشعب ولا أبالغ إن قلت أن بعض المدنيات القديمة للأمم البائدة احر بها أن تسمى مدنيات الهياكل بفضل أولئك السدنة الذين كانوا يحجبون عن العقول نور العلم الصحيح ونور الحقيقة الإلهية استعباداً للنفوس والأرواح وقد أخبرتنا الكتب المقدسة وأخبرنا التاريخ من أحاديث أولئك الطائفة من الناس بما يغني عن طول الشرح.
هذا هو السر في أن قريشاً وهي سدنة البيت العتيق اهتزت أعصابها واستشعرت الخطر على سيادتها الدينية لأول دعاء دعا به النبي وهو التوحيد أي قول لا إله إلا الله ولا عبودية لأحد سواه فأظهروا له العداوة والبغضاء وما زالوا به حتى ألجأوه وأتباعه إلى الهجرة عنهم ولو علموا أن هذه الدعوة مخبوء لهم تحتها فوق ما يزعمون من السيادة الوهمية وهي سيادة العلم والمدنية والسلطان العظيم في الأرض بما سيكون إليهم من ميراث الأمم لما فعلوا معه ما فعلوه ولكن أكثر الناس أعداء ما جهلوه.
ومهما كان الحال فقد كانت هجرته الشريفة خيراً لقريش وللعرب والانسانية جمعاء إذ تمكن بعد امتناعه بالأنصار من جمع كلمة العرب ووضع قواعد شريعته الغراء التي قيدت قيود عبودية البشر للبشر وفسحت للعقل مجال النظر في الكائنات فجعلت العلم مشاعاً بين بني الإنسان من الطبقات فندبت عامة الناس إلى تعلم العلم وتعلم اللغات والاستفادة من قواميس الكون وأسرار الطبيعة وجعلت قاعدة التفاضل بين المسلمين التقوى والعلم فلا يفضل عالم جاهلاً إلا بعمله، ولا يفضل تقي شقياً إلا بعمله.
فكان من هذا نذير عظيم بالتبدل العتيد لشكل المدنية القديمة والعلم الناقص انتفض له جسم الإنسانية الهامد تحت ضغط الخرافات الوثنية التي شيبت به علوم الأقدمين ونشطت النفوس إلى تناول حقها الطبيعي من هذا الوجود بما قرره الإسلام من مبادئ الاشتراكية