يسمع لفظ التلفيق في كتب الأئمة لا في مواطآتهم ولا في أمهاتهم بل ولا في كتب أصحابهم ولا أصحاب أصحابهم ولا يبعد أن يكون حدوث البحث في التلفيق في القرن الخامس أيام اشتد التعصب والتحزب ودخلت السياسة في التمذهب، واضطر الفقهاء للاعتياش والارتياش إلى التشدد في ذلك والتصلب، فمسألة التلفيق إذن من مسائل الفروع ولا دخل لها في الأصول فإن مسائل الأصول هي مباحثه التي يستمد منها معرفة الاستنباط والاستنتاج مما لأجله سمي الأصول أصولاً فمن أين أن يعد منها التلفيق الذي لم يخطر على بال أحد في القرون الأولى ولا سمع به.
اتسع أمر التأليف في القرون المتأخرة وأدخل في كل فن ما ليس منه بل امتلأ مثل الفقه من الفرضيات أضعاف أضعاف الواقعيات فلو وازنت بين أسلوب المتقدم والمتأخر في أي فن لدهشت من تباينهما عجباً فكانت كتب المتقدمين لا تخرج عن موضوع الفن قيد شبر حتى استفحل الأمر في التأليف وجرى من جرائه ما نعاه غير واحد من الحكماء وقد ألم بشيء من ذلك القاضي ابن خلدون في مقدمة تاريخه.
والمقام لا يتسع لبسط هذا البحث الذي تتجاذبه أمور عديدة لمعرفة منشأه من اختلاف السياسة ودخول عوائد الأمة الغالبة على المغلوبة قسراً وتبدل المناحي والمطالب في تلقي العلم والتوسل لنيله فاختلط جيد الكتب بغيره وتبدلت العادات بغيرها وصارت المراتب والمناصب وقفاً على هذا السبيل لا تنال بغيره فتبعها ضرورة أمر التأليف فجرى على سنتها ومنهاجها وصار التمذهب أصلاً راسخاً وتعددت لأجله الفرق الإسلامية كل يدعو لإمام ورائده السياسة والسيادة فنشأ ما نشأ وتولد ما تولد مما لا عهد للسلف به بل بينه وبين سيرهم الأول بعد المشرفين برف ذلك كله من دقق في فلسفة التاريخ واستقرأ قواعد الفاتحين وأصول الدول واستكنه رجالها وحلية العصر والمصر في كل مملكة وجيل وقد بسطناه في مقالة خاصة والقصدان التلفيق الذي يبحث عنه المأخرون ينبغي للمفتي إذا استفتي عن مسألة منه أن ينظر إلى مأخذها من الكتاب أو السنة أو مدركها المعقول منها وإما تسرعه إلى القول بالتلفيق بطلاناً أو قبولاً فعدول عن مهيع السلف على أن ما يسمونه بعد تلفيقاً بقطع النظر عما ذكرنا في شأنه ربما رجع إلى نوع الرخص التي يحب الله أن تؤتى وللشيخ مرعي الحنبلي - أحد فقهاء الحنابلة المشاهير - رسالة في جواز التلفيق