الأسف لم نفعل شيئاً من ذلك ولم نفكر فيه فقد كان أئمة اللغة رحمهم الله في عصر يمكنهم من ذلك لأن كثيراً من اللغات السامية كانت لا تزال حية عَلَى عهدهم ولكنهم قد عكفوا عَلَى جمع اللغة وتدوينها من غير أن يفكروا في البحث عن أصلها وقد أخذت تلك البقية الباقية تندمج في اللغة العربية بحكم القهر والتغلب الفطري حتى لم يبق لها من الأثر إلا قليل.
ومن الغريب أيها السادة أن علماءنا رحمهم الله بدل أن يبحثوا عن اللغة السريانية من حيث علاقتها باللغة العربية بحثوا عنها من حيث أنها ستكون لغة الأروام وسيكون وأظنكم تضحكون إذا سمعتم قول بعض العلماء
(ومن غريب ما تري العينان ... أن سؤال القبر بالسريان)
(أفتى بهذا شيخنا البلقيني ... ولم أره لغيره بعيني)
هذان بيتان يمثلان ضعف السليقة العربية وفسادها قبل كل شيء أقبح تمثيل ويمثلان سقوط الهمة وانحطاط النفس لأنها قد تركت النافع وبحثت عد ما لا خير فيه.
وأي ضعف للسليقة العربية أكثر من جعل الأقوال التي تسمع بالآذن مرئية للعيون وأي انحطاط للنفس أكثر من أن تترك الحياة وتبحث عن الموت.
ولو أني وكلت بإصلاح هذين البيتين لقلت
(ومن سخيف ما تعي الأذنان ... إن سوءال القبر بالسرياني)
(أفتى بهذا شيخنا البلقيني ... وهو حديث كذب ومين)
عَلَى أن المستشرقين من علماء الفرنج قد بحثوا هذا البحث الذي تركناه وسلكوا تلكم الطريقة التي أغفلناها فاهتدوا إلى حقائق في تاريخ اللغة العربية لا بأس بها وليس هذا موضع تفصيلها الآن فليس علينا إلا أن نتأثرهم في هذه الطريق فإنهم ليسوا أحق منا بالبحث عن لغتنا والتنقيب عليها.
السبب الثالث أن العرب ولاسيما أهل الحجاز الذين نبحث عن لغتهم الآن قد كانوا أمة بادية لم تشترك مع غيرها من الأمم في تكوين الحضارة الإنسانية اشتركاً حقيقياً إلا بعد ظهور الإسلام فكانت في جاهليتها محتجبة عن التاريخ ولذلك لم يحفظ عنها إلا أساطير حظ الظن منها أكبر من حظ اليقين.