نشأت هذه اللغة وتكونت ألفاظها وأساليبها وهي بمعزل عن الناس قد جعلت البداوة بينها وبين التاريخ حجاباً مستوراً وكأنها قد سئمت الخفاء والاحتجاب ورغبت في الظهور ومجاراة اللغات الحية وظهرت للتاريخ في القرن الخامس لميلاد المسيح ومنتصف القرن الثاني قبل الهجرة فإذا لغة ضخمة الألفاظ فخمة المعاني متينة الأساليب رصينة التراكيب قد تم خلقها وكملت قواها فأصبحت قادرة عَلَى البقاء مستعدة للنماء وقد سلكت في الآداب الوجدانية كل مسلك فمدحت الخير والفضيلة وذمت الشر والرذيلة وأخذت بنصيب موفور من المدح والهجاء والوصف والرثاء والتشبيب بالنساءِ والفخر بشرف المناسب وكرم المناقب واشتملت عَلَى الجم الكثير من الحكم البالغة والأمثال السائرة ومن الخطب الرائعة والأسجاع البارعة ولم تدع فناً من فنون الأدب الوجداني إلا ضربت فيه بسهم وفازت منه بنصيب.
إذ صح ما يقولون من أن مقاييس الرقي الأدبي لكل أمة من الأمم هي أشعارها وأمثالها وأغانيها لأن الأشعار مرآة النفس والأمثال صور الفكر والأغاني لغة القلوب.
أقول إذا صحت هذه القاعدة وقسنا رقي العرب في جاهليتهم بهذه المقاييس الثلاثة كانت النتيجة مؤلمة جداً لأننا لا نستطيع أن نتردد لحظة واحدة في الحكم بأن العرب الجاهليين الذين لم يؤدبهم أستاذ ولم يثقفهم كتاب ولم يصلح أخلاقهم دين أرقى منا أنفساً وأذكى قلوباً وأبعد منا هماً وأصدق عزماً والدليل عَلَى ذلك سهل ميسور تعالوا نقارن بين أشعارنا وأشعارهم وأمثالنا وأمثالهم وغنائنا وغنائهم ثم نستخلص من هذه المقارنة نتيجة الحكم فأي الفريقين كانت له النتيجة فهو صاحب الغلب والفوز.
غير أني أيها السادة أستحي أن أقارن بين قول امرئ القيس في التوصل عَلَى حبيبته
سموت إليها بعد ما نام أهلها ... سمو حباب الماء حالاً عَلَى حال
فقالت حبالك الله إنك فاضحي ... ألست ترى السمار والناس أحوالي
فقلت يمين الله أبرح قاعداً ... ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي
فأصبحت معشوقاً وأصبح بعلها ... عليه القثام سيء الظن والبال
يغط غطيط البكر شد خناقه ... ليقتلني والمرءُ ليس بقتال
أيقتلني والمشر في مضاجعي ... ومسنونة زرق كأنياب أغوال