جواز الوقوع ولئن سلمنا جدلاً بإمكان حصول أحد هذين الحلين فهل نسلم بان الزمن اللازم لذلك قريب كما يدعون؟ كلا إنه لأبعد مما يتوهمون ولا جرم بأن الأمم المضغوط عليها لن تقتنع بهذا كما أنها لن تسلم باستعمال لغة عامة. قد يمكن أن يستعمل بعض العلماء الراقين في الإنسانية جمعاء لغة واحدة عامة لتبادل الأفكار فيما بينهم. ولكن من الصعب التصديق لان أقواماً متفرقين يتحدون عَلَى تعليم هذه (اللغة المدرسية) لغة العلم ويخنعون لحكمها وسلطانها إذا أراد الراقون في أمته أن يلقنوا الشبيبة أسرار العلم أو يريدوهم عَلَى أمر خطير أو يبدوا لهم ما توحيه ضمائرهم من تحليل أو تحريم فلا يلجئون قط إلى إلباس أفكارهم ثوب تلك اللغة الأجنبية التي تحرف أوضاعها، وتغير شكلها، وتضيق عليهم نطاق حريتهم.
بقي أمامنا دحض ما تقدم وسيلة واحدة من الوسائل الراديكالية الآنفة الذكر ألا وهي استعمال الشدة: إن أعمال التذبذب والتجارب الناقصة والضغط الضعيف قلما تفيد شيئاً في هذا الباب. لاسيما إذا كان المقصود اغتصاب ملك أسياسي قديم يحتوي عَلَى جزء جوهري من الذاتي كاللغة فالتنازع لأجل اللغة ليس إلا شكلاً آخر لتنازع البقاء فيجب أن يعتبر مثله: غما أن تقتل عدوك وإما تقتل أو أن تنهزم! وتنازع الجنسيات ليس إلا تكملة لحادث ظهر منذ قرون بل منذ ألوف السنين ثم سكنت ثائرته مدة فقام اليوم من رقدته ومشى مشية سريعة نحو الختام. ولسائل أن يسأل كيف اختلطت الجنسيات المختلفة وتدخلت بعضها في بعض؟ وهناك الجواب: دخل شعب غازياً بلاد شعب آخر فلم يطرده منه بتاتاً بل بقيت فئات من الشعب المغلوب بين الشعب الغالب، أو أن الشعب الغالب كان أقل عدداً من الشعب المغلوب فلم يبق منه إلا فئة قليلة. هنالك يشتد التنازع بعد أن كان ساكناً فيضطر الشعب الغالب لأن يستجمع آخر قواه ليدفع عنه الشعب المقهور أو أن يعدمه ادبياً بحرمانه من لغته بالقوة الوحشية اللهم إلا إذا نهض الشعب المغزو فجأة مدافعاً عن نفسه فيطرد الغازين خارج بلاده أو يضطرهم إلى نبذ جنسيتهم.
ولقد تأتي الحوادث عَلَى صورة أخرى كان ينزح فريق من شعب عن ديارهم لأنها لا تكفي لعيشهم فيقطنون دياراً غيرها. فإن كانت هذه الديار خالية في الماضي ثم شاركهم في احتلالها مهاجرون من شعوب أخرى فللمحتلين الأولين أو يعتبروا الجهاد في سبيل لغتهم