التي قضيتها في اجتياز هذه المفوز بما سمعته في أحاديث رفاقي العرب في الإبل حتى صرت كأني بعض رعاتها لطال علي أمرها ولكني حملت النفس عَلَى أن تتعلم الصبر من تزلك الجمال وطبقت فيها بالعمل ما قرأته بالنظر أيام الطلب من مصطلحات العرب في إبلهم وحدائهم فصار مذهبي ولا فخر جمالياً بعد أن كان جمالياً وعملي بالأباعر عملياً وكان من قبل نظرياً.
وكأن رحزلتي في الشهر الماضي إلى الحجاز وجنوبي الشام ونزولي عَلَى أهل البادية من أهلب المدر والوبر كانت مقدمة لما امتحنت به هذا الشهر من مواكلة الأعراب في صفحة واحدة والتخلي عن الملعقة والشوكة والسكين والفوطة والكأس والأكل من أطعمتهم وهي الثمن أرز العراق والبرغل جيش الحنطة والتمر والخبز المعمول بالملة أو عَلَى الصاج يسجر ببعر الأباعر والإدام في هذه الأيام يخالطه رمل وهذا يدخل في كل مأكول ومشروب تسفوه الرياح طوعاً أو كرهاً ولقد صدق الواصفون منذ القديم لهذه الجفار بأن الخبز إذا أكل يوجد الرمل في مضغه فلا يكاد يبالغ فيه.
وإني أحمد الله إليكم عَلَى أني قضيت أيام هذه الرحلة ولياليها برمتها لم أطالع فيها جريدة ولا مجلة ولا كتاباً ولا وقعت عيني عَلَى ورقة ولا مسكت قلماً ولا كتبت مقالة ولا محاضرة ولا نكتة ولا قيدت شاردة ولم أسمع غير حداءِ الإبل وغناءِ الأعراب ولم يصل فكري إلى أبعد من عمل القهوة البدوية أو أكل التمر ولم يبلغ أذني غير أحاديث الإبل فأصبحت ولله المنة استعذب تردادها استعذابي لترديد أخبار المدنية. ومن نعم المولى علي أني رأيت صورة مصغرة من عيش أهل جزيرة العرب تمشي بين بلاد الشام ومصر ودرست نموذجاً صالحاً من أخلاق العرب بالاختلاط بتجار الجمال ورعاتها ممن كانوا يختلفون إلينا ونختلف إليهم كل مساء وصباح فلم اسمع كلمة هجر وبذاءِ وتجديف قط وما تبيت في أخلاقهم إلا الجد الذي ليس وراءه جد والعزيمة التي تخور أمامها العزائم والبحث عَلَى الدوام فيما هم بسبيله من التجارة والعناية برعية إبلهم والقيام عَلَى صحتها فكان وجود السبط والإرطة والقطف والحمط من العريش إلى قطية فالإسماعيلية وغير ذلك من الشواك والأعشاب كالشيح والرثم التي تستطيبها أنعامهم أهم إليهم من كل حديث واشهى لقلوبهم من كل نغمة وأفعل في نفوسهم من كل نعمة من نعم الجمال والكمال.