الماضي ويظهر لي أني بصرف حياتي في دراسته قد بلغت الآن من العمر عَلَى الأقل خمسة أو ستة آلاف سنة. وأنا أتنزه في فضاء واسع طافح بالأنوار والظلمات والحركات وأتنفس برئتين واسعتين.
بيد أن معرفة التاريخ شيئاً غير هذا وأحسن منه في الأثر فالتاريخ هو الفراق العظيم بين الإنسان والحيوان. فالكلب يجهل ما بذل من العناية الطويلة. وما اثر فيه نوع التربية حتى صار كلب صيد أو كلب راع. فهو لا يتمثل أمامه تاريخ جنسه من الكلب الأول جده الأعلى إلى أيامنا هذه. والرجل الذي لا يصعد إلى طبقة أجداده وهم في مغاورهم الأولية ليراهم حيث كانوا يأتون بالصيد ويمتصون نخاع العظام المكسرة بقدوم من الحجر هو كلب وزيادة. هو لا يتبع آثاره الإنسانية إلى الدرجة التي بلغناها من المقام الإنساني. والإحساس الظاهر من تكريم الإنسانية لا يقتبس من غير التاريخ.
معرفة التاريخ توضح سبيل محبة الوطن. والوطن مكان الإنسانية الذي ولدنا فيه ويمتاز عن سائر الأوطان بالطبيعة بل بالتاريخ أي بمجموع أعمال وأفكار متتابعة تألف منها ما قدر لنا من سعادة وشقاء. فعليكم ألا تجهلوا كيف أصبحت فرنسا من أعظم الأمم - ولا يكفي لأن يكون المرء فرنسوياً أن يولد في فرتنسا كما هو شأن أشجار الحور والصفصاف عندنا بل إن التاريخ هو الذي يطلعنا عَلَى ما قام به أسلافنا ويعلمنا ما يقتضي علينا القيام به.
فمن السهل أن يميز العمل الذي تم في خلال القرون الأخيرة. إن هذا المعاصر للويس الرابع عشر الذي ذكرته لكم منذ حين كان رعية لملك كان يعتقد نفسه - بل وكان بالفعل - سيد رعاياه ومالك أرواحهم وأشباحهم فأبادهم بحربه وبما أنفق عَلَى قصوره وأعياده وأفراحه وتركهم يعذبون في ظل إدارة ممقوتة كره العقول عَلَى الإغضاءِ هن أفكارها واضطهد الوجدانات وحبس وشرد ملأ سجون بالرجال والمطابق المؤبدة عَلَى أنه لم يكن رديئاً كما لم يكن غبياً لأنه كان عَلَى جانب من الذكاء. ولم يكن ساقطاً لأنه كان محتشماً في سره وعلى شيء من العدل. ولكن الزمن إذ ذاك كان يبيح تلك الأخلاق. وكان كل ما يأتيه الملك يعتقد - ومعظم الشعب يوافقه عَلَى اعتقاده - بأن له الحق أن يعمل ما يريد بحيث أنه لا يحزن إلا إذا قلبت الأيام له ظهر المجن ولا يتأثر وجدانه بل إنه يأسف قليلاً يبد