يعطي في حال السعة وكان نواب خزائنه يخفون عنه شيئا من المال حرا من أن يفاجئهم مهم لعلمهم بأنه متى علم به أخرجه قال ابن شداد: وكان يعطي فوق ما يؤمل الطالب فما سمعته قط يقول: أعطينا لفلان وكان يعطي الكثير ويبسط وجهه للعطاء بسطه لمن لم يعطه شيئا وما سمعته قط يقول: قد زدت مراراً فكم أزيد وأكثر الرسائل كانت تكون على لساني ويدي وكنت أخجل من كثرة ما يطلبون ولا أخجل منه من كثرة ما أطلبه لهم لعلمي بعدم مؤاخذته في ذلك وما خدمه أحد إلا وأغناه عن سؤال غيره وقد سمعت من صاحب ديوانه يقول لي: قد تجارينا عطاياه فحصرنا عدد ما وهب من الخيل بمرج عكا فكان عشرة ألاف رس ولم يكد يركب فرساً إلا وقد وعد بأن يعطيها لأحد طلاب عطاياه. وبالجملة فإن ما ذكره العماد وابن شداد عن خلال صلاح الدين ومواظبته على القواعد الدينية وملاحظته للأمور الشرعية وعدله وكرمه وشجاعته واهتمامه بأمر الجهاد وصبره واحتسابه وحلمه وعفوه ومحافظته على أسباب المروءة هو العجب العجاب وقرة عين المسلمين والعرب على مر السنين والأحقاب.
يرى الناظر في كتاب العماد الكاتب الأصفهاني أنه لم يكد يغفل تفاصيل الوقائع الصلاحية أو يشذ عنه نادرة من النوادر اليوسفية الأيوبية على ضيق عطن النثر والسجع عن قبول هذه المعاني بجملتها ويعاب على الأصفهاني كثرة تبجحه بكتابته فقد ذكر غير ما مرة من كتابه أنه كان هو الفرد العظيم المقدم في الديوان الصلاحي مع أن ابن شداد ذكر عن نفسه شيئا من ذلك بالعرض أورده كما رأيته في معرض الكلام على منائح صلاح الدين ولكن صاحبنا العماد جرى على عادة الفرس في المبالغة سامحه الله فقال في فتح بيروت: وكنت يومئذ في مرض قد أزعجني ومضض أجفاني ولعيون العواد أبرزني وانقطعت عن الحضور عند السلطان وضعفت عن تحرير كتاب الأمان فطلب السلطان كل كاتب في ديوانه وكل من يمسك قلما من أفاضل الملك وأعيانه فلم يرضه ما كتبوه ولم يكفه ما رتبوه فجاءني في تلك الحالة من استملاه مني ومرضت أذهان الأصحاء ولم يمرض ذهني فتسلم بيروت بخطي وأصبحوا وأنا الآخذ والمعطي وكان الناس قد أنسوا بما أسطره وأبرزه وأنسوا سوى ما أذكره وأحبره والغوا الصحة فيه فألفوا ولقوا السقم في غيره فانفوه فلم يكن في ذلك التوقيع تعويق بل كله بتوفيق من الله توثيق فما فتح فتح إلا بمفتاحه ولا رتق فتق