تعرب وأنت لا تحتاج لمعرفة غير العربية في المرفأ والترام والسكة الحديدية والمخازن لأن بيروت قد عربت كل ما دخل عليها ولم تبعد من العربية كل ما صدر عنها فإنا نرى العرب الذين تفرقوا في أقطار المعمور مهما طالت غربتهم عن ديارهم لا ينسون قوميتهم فلا تسمع في أحياء العرب في نيويورك وبوني أيرس غير اللسان العربي وبواسطتهم دخلت عادات العرب وأخلاقهم إلى تلك القارات الواسعة ولا مناص لمن ينزل هذه الديار بضعة أشهر من أن يستعرب فيندمج في العرب للحاجة الماسة في حين نرى التركي الذي يقيم بضع سنين في فرنسا ينسى لغته أو يتناساها أو يصبح على الأقل وهو يمزج في حديثه ألفاظاً إفرنجية وهذا وإن كان من أسباب فقر اللسان لكن السبب الرئيسي فيه فقدان فكر الوطنية من النفوس. وإنك لتجد في بيروت حتى المدارس الأمريكانية وبالافرنسية التي تبث الأفكار الأجنبية لم يكتب لها البقاء إلا عندما تعربت. والكليتان الأمريكية والفرنسية قد جعلا للعربية مقاماً جليلاً والمعلمون كلهم محيطون باللغة العربية ومنهم المؤلف والأديب والكاتب على حين نرى أمثال هذه المدارس في الأستانة لا يكاد يوجد فيها من يكلمك بغير اللسان الإفرنجي ومهما افتخر الفرنسي بكليتهم البيروتية وقالت جريدة الظان عن سورية أنها القطر الذي فتحناه بلساننا فإن الحقيقة الراهنة أن هذه المدرسة لم تفتح البلاد بلسانها بل لأن المملكة قد أرجعتها إلى قوميتها الخاصة ولسانها الخاص أي أن العرب لم تأسرهم هذه المدرسة بلغتها بل أسروها بلغتهم. إليك زبدة المقالتين والأولى ترمي إلى التخفيف من التحمس إلى التركية لئلا يقل عدد الأتراك الحقيقيين والثانية تدعو قراءها إلى التشبه بالعرب في قوميتهم والتحمس لها حتى يبتلعوا غيرهم ولا يبتلعهم غيرهم. وكلا المقالين صحيح فإن الشعوب لا تقهر على الأخذ بلسان غيرها مهما كثرت عليها عوامل الضغط والإرهاق وحالة التركستان التاتارية وبولونيا الروسية أعظم شاهد من هذا القبيل فإن روسيا تسعى بكل ما لديها من قوة حتى تجعل سكانها روساً فلم يتيسر لها ذلك حتى الآن وإنما الناس يتعلمون لسان قوم ويتجنسون بجنسياتهم إذا وجدوا فيهما مصلحة كما وقع لكثير من الروس والطليان والمجر والألمان والبولونيين والتشيك والبوهميين في أمريكا الشمالية فإن البلاد قد جذبتهم إليها بسائق طلب المعاش أولاً ثم حببت نفسها إليهم بنظامها وعاداتها وغناها فنسوا على التدريج ألسنتهم بعض الشيء