غيرهم في فن النظم. كانوا يعتقدون أن شعرهم أرقى وأسمى من شعر جميع الأمم فكانوا كلما ألقوا أنظارهم على ما أثمرت قرائح أبناء العرب طربوا ورقصوا لو داخلتهم العزة وحق لهم أن يفخروا وأنفوا أن ينقلو من غيرهم شيئاً في هذه الباب.
وفي لاواقع فإنه لا توجد في العالم أمة وصلت آدابها إلى ما وصلت إليه آداب اللغة العربية لا في غناها وفي غزارة مادتها ولا في متانة أساليبها ولا في نوع شعرها الحماسي ولا غزلي وغيرهما من فنون الشعر الخيالي (فالشعر العربي يكاد يكون كله من الشعر الخيالي) ولم ينبغ في أمة من الأمم عدد من الشعراء يوازي أو يناهر عدد شعراء العرب وذلك راجع إلى ثلاثة أسباب رئيسية:
السبب الأول - أن العربي حاد الإحساس إلى درجة غريبة سريع التأثير كثير التحمس كريم النفس قريب الغضب والرضا على السواء. ومن طبائعه أنه مندفع في أمره. مفيض بما في خاطره. فلا يمكنه كتمان ما في نفسه. ولذا تأبى طبيعته أن يظل ساكتاً عما حوله من المؤثرات فكان من الطبيعي أن تغنى بما يشعر به وأن يكون غناؤه صدى حقيقياً لعواطفه شبيهاً بها في شدتها وتناسبها وتناسقها فيخرج كلامه مصوراً تصويراً خيالياً موزوناً هو الشعر.
السبب الثاني - أن اللغة العربية هي في ذاتها أصلح اللغات للشعر وهيهات أن تقاربها لغة أخرى في غناها وفيها ما لا يحصى من المترادفات المتوافقة لفظاً وكثير منها متحد وزناً وهي وحدها تكفي لتصوير الخيال بدون الاحتياج إلى الاستعانة بغيرها فإن فيها العشرات بل المئات من الأسماء للدلالة على بعض المسميات سواء كانت من الحيوان كالأسد والثعبان والحمار ولناقة والثور والكلب ولقط. أو من المأكول كاللبن والعسل والتمر أو من المشروب كالماء والخمر أو من السلاح كالسيف والقوس والسهم والرمح ولمجن أن أو من الأوصاف كالطول والقصر والكبر والصغر والشجاعة والجبن والكرم والبخل فللأسد خمسمائة اسم وللثعبان مائتان وللناقة مائتان وخمسون وللماء مائة وسبعون أما المصائب والأرزاء فأربعمائة اسم ولعمري أنه عدد لا مبالغة فيه بل ربما كان أقل مما يلزم بالنسبة إليها. . . . . .
على أن هذه الكثرة في مادة اللغة لم تمنعها من أن تكون دقيقة في معانيها محكمة في مبانيها