فقد خصت كل ليلة من ليالي القمر باسم كما خصت كل ساعة من ساعات الليل والنهار. وكذلك سميت الريح بأسماء مختلفة بحسب اختلاف أحوالها فإذا وقعت بين ريحين فهي النكباء وإذا وقعت بين الجنوب والصبا فهي الجربياء وإذا هبت من جهات مختلفة فهي المتناوحة وإذا كانت لينة فهي الريدانية. وإذا جاءت ينفس ضعيف فهي النسيم فإذا كان لها حنين كحنين الإبل فهي الحنون فإذا ابتدأت بشدة فهي النافجة وإذا كانت شديدة فهي العاصف. فإذا كانت شديدة ولها زقزقة فهي الزقزاقة الخ. .
وربما كانت هذه الكثرة داعية إلى الاستغراب ولكن متى ظهر السبب بطل العجب. فقد كان العرب في جميع الأزمان من أكثر الأمم اشتغالاً بلغتهم ثم كانوا فوق ذلك مولعين بفطرتهم بتحليل كل ما تقع عليه أبصارهم ويدرس نزعات النفس وأحوالها. فدرسوا من كل شيء جسمه وشكله وروحه وأثبتوا أوصافه ومميزاته وأصله ومؤثراته وعيوبه وفضائله وخصوا كلاً من هذه الأوصاف والمميزات باسم يدل على الوصف وعلى الحالة التي يكون بها. فالخمر مثلاً سميت خمراً للدلالة على أن أصلها من الاختمار وراحاً للدلالة على ما تحدثه في نفس شاربها من الارتياح وحمياً للدلالة على ما تبعثه فيه من الانفعال الخ. . . .
ثم إن الأمة العربية كانت مؤلفة من عدة قبائل ولكل قبيلة منها لهجة خاصة ولغة تختلف بعض الاختلاف عن لغة غيرها فلما توحدت هذه القبائل اندمجت ألفاظ كل قبيلة وعباراتها في صلب اللغة. وبعد ذلك جاء الفتح الإسلامي واختلط العرب بغيرهم من الأمم فرأوا من الأشياء والأدوات والحاصلات والعادات والصناعات ما لم يكن لهم له عهد من قبل، فاضطروا إلى إدخال الأسماء الأعجمية إلى اللغة العربية بعد أن نحتوها وهذبوها فأصبحت جزءاً منها.
ومن ذلك توجد لديكم فكرة عن مقدار غنى لغتنا العربية الذي لا يحيط به حصر ويقصر عن وصفه لسان. أضيفوا إلى ذلك تعدد الجناس وتفرقه وهي تفتح السبيل واسعاً للتورية والمجاز وغير ذلك من ضروب البيان التي تأسر اللب فيجد منها الشعراء الفحول والكتاب البلغاء ما يبغون لكي يهيموا على عالم الخيال ما شاؤوا وشاءت لهم مقدرتهم وبكون لهم منها ينبوع للفكاهات والتنكات ولما تسمونه أنتم معاشر الفرنسيس كلامبور وبهذه المناسبة أذكر أن العلامة اللغوي الشهير لتريه زعم أن تاريخها يرجع إلى القرن الثامن عشر للميلاد