مظهراً لسانحة تمر أو فكر يخطر على البال ثم ينمحي. بل كان مظهراً لكل معنى من المعاني العادية ووسيلة للتعبير عن كل المعارف الإنسانية حتى منها بل للتعبير عن أدق النظريات وأبعدها غوراً فتجد بعض المؤلفات النحوية شعراً بل تجد من المؤلفات الخاصة بالتقوى والعبادة أو بالطب أو الكيمياء أو المنطق ما وضع شعراً. بل إني أستطيع أن أقول دون أن أتعرض تعرضاً كبيراً للتكذيب، إن العرب لا بد أن يكونوا ضمنوا المعادلات الجبرية والهندسية بعض أبيات من أبياتهم حتى تعلق بالأذهان كما جرت عادتهم. بل إنه لا يكون من الإغراق في القول أن أقول بأن العرب كانوا يعبرون عن أفكارهم في غالب الأحيان وفي جميع الأزمان بطريق النظم فيكون الوزن قاعدة تعبيرهم كما كان قاعدة أفكارهم وحركاتهم وسكناتهم. ولا غرابة أن يكون ذلك من أقدم الأزمان فقد زعم بعضهم أن أول من نطق بالشعر العربي أبونا آدم عليه السلام وقد حفظ لنا التوراة الأشعار التي نظق بها. وما زال بعض المولعين بالمناقشات يتباحثون إلى اليوم إذا كان الأمر الذي لا نزاع فيه هو أنه إذا كان آدم شاعراص فإن العرب أحق الناس بالانتساب إليه وأجدرهم به لأنهم أمراء الشعر وسادة البيان. فإذا كان للملوك أسر فإن للشعراء أيضاً أسراً آل إليها المجد ووالله لهؤلاء أكبر شرفاً وأحق بالفخر الصحيح والمجد الرفيع من أولئك. وأذكر هنا النعمان ين بشير الأنصاري فهو شاعر اين شاعر وحفيد شاعر وابن شاعر ووالداً للشاعر الكبير زهير زجداً للشاعرين بن كعب بن زهير وبحير.
وهل أنسى سلالة حسان بن ثابت التي نبغ فيها عدد عظيم من الشعراء مدة قرون متوالية.
وقد كان الحال كذلك بعد الإسلام أيضاً فإن الشاعر الكبير فارس كان أبوه وجده من الشعراء ومثلها أبناؤه وأحفاده.
وما الفائدة من هذا المقدار وأي إنسان تبلغ به الدعوى مبلغاً يزعم معه أن في وسعه أن يخصي شعراء العرب وقد كان عددهم يتجاوز على قول أحدهم النجوم التي ترصع الزرقاء والأزهار التي يفوح عنبرها في الحدائق والمروج.
على أن كثيراً من الشعراء نعرف أسماؤهم ولكن لم يصلنا شيء من منظماتهم وبعضهم لم يصلنا منهم إلا أبيات قليلة مع أنهم كانوا على ما أثبت التاريخ من كبار الشعراء. ولا غرابة في ذلك إذا علمنا كيف وصلت إلينا أشعار الجاهلية.