للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

مسار الصفحة الحالية:

وإن كانت حميدة ذكرت دمشق في أثناء التهكم بزوجها والزراية عليه فإن شاعراً آخر ذكر دمشق في غضون عتابه لزوجته وتهديده لها فقال:

دمشق خذيها واعلمي أن ليلة ... تمر بعودي نعشها ليلة القدر

أكلت دماً إن لم أرعك بضرة ... بعيدة مهوي القرط طبيبة النشر

دمشق منادى: يقول خذي يا دمشق زوجتي التي هربت من بيتي إليك واعلمي أن الليلة تموت فيها تلك الزوجة الغادرة وأراها فيها محمولة على أعواد نعشها هي عندي بمنزلة ليلة القدر.

ثم أرى أن توقع الخلاص منها بانتظار موتها أمر يطول شرحه، فالتفت إلى الزوجة الناشزة واستحضرها في ذهنه وجعل يتهددها ويتوعدها فدعا على نفسه بأن يموت أحد الأعزاء عليه ويأكل ديته إن كان لا يتزوج ويدخل عليها الذعر ويضرم في قلبها نار الغيرة بانتقاء ضرة لها تكون أجمل منها، وأجمع لصفات الحسن.

وفي البيت الثاني كنايتان من أشهر الكنايات التي يتمثل بها البيانيون في كتبهم وهما) أكلت دماً) و (بعيدة مهوى القرط).

ومن أخلاق العرب أنهم يأنفون من ترك أخذ الثأر اكتفاءً بأخذ الدية من جمال وأنعام ويكنون عن هذه الدية الحيوانية بالدم ويعير بعضهم بعضاً بأكلها والرضا بها فشاعرنا يقول أنه إن لم يتزوج على امرأته تلك التي هربت إلى جلق فالله يبتليه بهذه الضعة والخزاية والعار الذي لا يمحى وهي أن يأكل دية قريبه بدل أن يأخذ بثأره فيقتل من قتله أما الكناية الثانية فهي قوله في صفة الضرة أنها بعيدة مهوى القرط فهو يصفها بالطول: إما طول العنق أوطول القامة. إذ أن مهوي القرط موضع هو يه وسقوطه وهو إما الكتف فالطول للعنق. أوالأرض فالطول للقامة وقوله في صفتها (طيبة النشر) أي طيبة الرائحة. وقوله مخاطباً لدمشق دمشق خذيها يشعر بأن لهذه البلدة مزية أومعنى يجتذب القلوب إليها وينزل الرحال لديها.

وإنما هدد ذلك الشاعر زوجته الناشزة بما هددها به لكونه بعلم مبلغ غيرة النساء وجزعهن من الضرة، وأبلغ ما قيل في ذلك قول الآخر:

خبروها بأني قد تزوجت ... فظلت تكلم الغيظ سراً