كثيرة، وطول الصّمت يفسد البيان. وقال ابو بكر بن عبد الله المرني: طول الصّمت حبسةٌ كما قال عمر: ترك الحركة عقلة. وإذا ترك الإنسان القول ماتت خواطره وتبدّلت نفسه، وفسد حسّه، وكانوا يروّون صبيانهم الإرجاز، ويعلّمونهم المناقلات، ويأمرونهم برفع الصّوت، وتحقيق الإعراب، لأنّ ذلك يفتق اللهاة، ويفتح الحرح (الصوت)، واللسان إذا أكثرت تحريكه رقّ ولان، وإذا أقللت تقليبه وأطلت إسكاته جسا وغلظ، وقال عبابة الجعفي: لولا الدربة وسوء العادة، لأمرت فتياننا أن يماري بعضهم بعضاً، وأية جارحةٍ منعتها الحركة ولم تمرنها على الأعمال، أصابها من التعقّد على حسب ذلك المنع
نصائح لمن يتطال للخطابة
مرّ بشر بن المعتمر بإبراهيم بن جبلة بن مخرمة السكوني الخطيب وهو يعلّم فتيانهم الخطابة فوقف بشر فظنّإبراهيم أنه إنما وقف ليستفيد أوليكون رجلاً من النظارة فقال بشر: اضربوا عمّا قال صفحاً، واطووا عنه كشحاً، ثم دفع إليهم صحيفةً من تحبيره وتنميقه وكان أول ذلك الكلام: خذ من نفسك ساعة نشاطك، وفراغ بالك، وإجابتها إياك، فإنّ قليل تلك الساعة أكرم جوهراً وأشرف حسباً، وأحسن في الإسماع، وأحلى في الصّدر، وأسلم من فاحش الخطأ، وأجلب لكل عين، وعزّةٌ من لفظٍ شريفٍ ومعنىً بديع، واعلم أنّ ذلك أجدى عليك مما يعطيك يومك الأطول بالكدّ والمطاولة والمجاهدة، وبالتّكلّف والمعاودة، ومهما أخطأك لم يخطئك أن يكون مقبولاً قصداً، وخفيفاً على اللسان سهلاً وكما خرج من ينبوعه ونجم من معدنه، وإياك والتوعر فإنّ التوعر يسلّمك إلى التّعقيد والتّعقيد هو الذي يستهلك معانيك ويشين ألفاظك، ومن أراع معنىً كريماً فليلتمس له ال٥فظاً كريماً، فإنّ حقّ المعنى الشريف اللفظ الشريف، ومن حقهما أن تصونهما عما يفسدهما ويهجّنهما وعما تعود من أجله إلى أن يكون أسوأ حالاً منك قبل أن تلتمس إظهارهما وترتهن نفسك بملابسهما وقضاء حقّهما، وكن في ثلاث منازل، فإنّ أولى الثلاث أن يكون لفظك رشيقاً عذباً، وفخماً سهلاً، ويكون معناك ظاهراً مكشوفاً وقريباً معروفاً، أما عن الخاصة إن كنت للخاصة قصدت، وأما عن العامة إن كنت للعامة أردت، والمعنى ليس يشرّف بأن يكون من معاني الخاصّة، وكذلك ليس يتصنّع بأن يكون من معاني العامّة، وإنما مدار الشّرف على الصواب، وإحراز المنفعة مع موافقة الحال وما يجب لكلّ مقامٍ من المقال، وكذلك اللفظ