فإن زعم زاعمٌ أنه لم يكن في كلامهم تفاضلٌ ولا بينهم في ذلك تفاوتٌ فلم ذكروا العيّ والكيّ والحصر والمفحم والخطل والمسهل والمتشدّق والتّفيهق والمهماز والثرثار والمكسار والهمّاز ولم ذكروا الهجر والهذر والهذيان والتخليط وقالوا رجوا تلقاع (كثير الكلام) وتلهاع (متشدّق) وفلانٌ يتليع في خطبته وقالوا فلانٌ يخطىء في جوابه ويحلّ في كلامه ويناقض في خبره ولو أنّ هذه المور قد كانت تكون في بعضهم دون بعض لما سمّي ذلك البعض والبعض الآخر بهذه الأسماء
وأنا أقول أنه ليس في الأرض كلامٌ هو أمتع ولا أنفع ولا آنق ولا ألذّ في الإسماع ولا أشدّ اتّصالاً بالعقول السّليمة ولا أفتق للسان ولا أجود تقويماً للبيان من طول استماع حديث الأعراب ألفصحاء العقلاء العلماء البلغاء.
يروى أن مطرف بن عبد الله كان يقول: لاتطعم طعامك من لا يشتهيه. ويقول: لا تقبل بحديثك على من لا يقبل عليك بوجهه. وقال عبد الله بن مسعود: حدّث الناس ما حدّجوك بأسماعهم ولحظوك بأبصارهم فإذا رأيت منهم فترةً فأمسك قال: وجعل ابن السمّاك يوماً يتكلّم وجارية له حيث تسمع كلامه فلمّا انصرف إليها قال لها كيف سمعت كلامي قالت: ماأحسنه لولا أنك تكثر ترداده فقال: أردده حتّى يفهمه من لم يفهمه قالت: الحد أن يفهمه من لم يفهمه يكون قد ملّه من فهمه. قال عبّاد بن عوام عن شعبة عن قتادة قال: مكتوبٌ في التّوراة لا يعاد الحديث مرّتين. وسفيان بن عيينة عن الزّهري قال: إعادة الحديث أشدّ من نقل الصّخر. وقال بعض الحكماء: من لم ينشط لحديثك فارفع عنه مؤنة الاستماع منك وجملة القول في التّرداد نفسه أنه ليس فيه حد يحصره من العوام والخواص
قال تمامة بن أشرس: كان جعفر بن يحيى أنطق الناس قد جمع الهدوء والتّسهل والجزالة والخلاوة وإفهاماً يغنيه من الإعادة ولو كان في الأرض ناطقٌ يستغني بمنطقه عن الإشارة لاستغنى جعفر عن الإشارة كما استغنى عن الإعادة وقال مرّة: ما رأيت أحداً كان لا يتجسس ولايتوقف ولا يتلجلج ولا يتنحنح ولا يرتقب لفظاً كان قد استدعاه من بعد ولا يلتمس التّخلص إلى معنى قد تعصى عليه طلبه أشد اقتداراً ولا أقل تكلّفاً من جعفر بن يحيى. وقال تمامة: قلت لجعف بن يحيى ما البيان: قال أن يكون الاسم يحيط بمعناك ويجلي عن مغناك وتخرجه من الشّركة وتستعين عليه بالفكرة والذي لابدّ منه أن يكون