تدع التماس البيان والتبيين إن ظننت أنّ لك فيهما طبيعةً وأنهما يناسبانك بعض المناسبة ويشاكلانك في بعض المشاكلة ولا تهمل طبيعتك فيستولي الإهمال على قوة القريحة ويستبدّ بها سوء العادة وإن كنت ذا بيانٍ وأحسست من نفسك بالنّفوذ في الخطابة والبلاغة ويقوة المنّة يوم أحفل فلا تقصّر في التماس أعلاها سورةً وارفعها في البيان منزلةً ولا يقطعنّك تهيّب الجلاء وتخويف الجبناء ولا تصرفنّك الروايات المعدولة عن وجوهها والأحاديث المتنأولة على أقبح مخارجها فإن أردت أن تتكلّف هذه الصّناعة وتنسب إلى هذا الأدب فقرضت قصيدةً أو حبرت خطبةً أو ألفت رسالةً فإياك أن تدعوك ثقتك بنفسك ويدعوك عجبك بثمرة عقلك إلى أن تنتحله وتدّعيه ولكن اعرضه على العلماء في عرض رسائل أو إشعارٍ أو خطبٍ فإن رأيت الأسماع تصغي له والعيون تحدّج إليه ورأيت من يطلبه ويستحسنه فانتحله فإن كان ذلك في ابتداء أمرك وفي أول تكلّفك فلم ترَ طالباً ولا مستحسناً فلعله أن يكون ما دام. . . . . . قضيباً أن يحلَّ عندهم محلّ المتروك فإن عاودت أمثال ذلك مراراً فوجدت الأسماع عنه منصرفة والقلوب لاهية فخذ في غير هذه الصناعة واجعل رائدك الذي يكذّبك حرصهم عليه أو زهدهم فيه. فقال: وقد يكون الرجل له طبيعة في الحساب وليس له طبيعة في الكلام ويكون له طبيعة في التجارة وليس له طبيعة في ألفلاحة ويكون له طبيعة في الحداء أو في التعبيرات في القراءة بالألحان وليس له طبيعة في الغناء وإن كانت هذه الأنواع كلّها ترجع إلى تأليف اللحون ويكون له طبيعة في الناي وليس له طبيعة في السرناي ويكون له طبيعةٌ في القصبتين المضمومتين ويكون له طبع في صناعة اللحون ولا يكون له طبع في غيرها ويكون له طبع في تأليف الرسائل والطب والأسجاع ولا يكون له طبع في قرض بيت شعر ومثل هذا كثيرٌ جدّاً
وقال: ليس في الأرض كلام هو أمتع ولا أنفع ولا آنق ولا ألذّ في الأسماع ولا أشدّ اتصالاً بالعقول السّليمة ولا أفتق للسان ولا أجود تقويماً للبيان من طول اتماع حديث الأعراب ألفصحاء العقلاء والعلماء البلغاء وقد أصاب القوم في عامّة ما وصفوا إلا أنّي أزعم أنّ سخيف الألفاظ مشاكلٌ لسخيف المعاني وقد يحتاج إلى السخيف في بعض المواضع وربما أمتع بأكثر من إمتاع الجزل ألفخم ومن اللفاظ الشريفة الكريمة من المعاني كما أنّ النّادرة الباردة جدّاً قد تكون أطيب من النّادرة الحارّة جدّاً وإنما الكرب الذي يختم على القلوب