والفكر فيه بعد مغيبه وهي قوة النفس تبعث على الحرص والفكر فيما زجر فيه من مرئي أو مسموع وتكون قوته المخيلة كما قدمناه قوية فيبعثها في البحث مستعيناً فيؤديه إلى أدراك كما تفعله القوة لمخيلة في اليوم وعند ركود الحواس تتوسط بين المحسوس المرئي في يقظته ومع عقلته فيكون ١١ الرؤيا وأما المجانين الذين يخبرون بالغيب فنفوسهم الناطقة ضعيفة التعلق بالبدن لفساد غالباً وضعف الروح الحيواني منها فتكون نفسه غير مستغرقة بالحواس ولا فيها بما شغلها في نفسها من ألم النقص ومرضه وربما يزاحمها على التعلق به روحانية أخرى أو شيطانية تتشبث به وتضعف هذه عن ممانعتها فيكون عنه التخبط فإذا أصابه ذلك التخبط إما لفساد في مزاجه من فساد في ذاتها أو لمزاحمة من النفوس الشيطانية في تعلقه غاب عن جسمه جملة فأدرك لمحة من عالم نفسه وأنطبع فيها بعض الصور وحرفها الخيال وربما نطق على لسانه بتلك الحال من غير أرادة النطق وأدراك هؤلاء كلهم مشوب فيه الحق والباطل لأنه لا يحصل له الاتصال وان فقدوا الحس إلا بعد الاستعانة بالتصورات الأجنبية ومن ذلك يجيء الكذب في هذه المدارك اه.
والظاهر من قول ابن خلدون أن للنفس عقلين ظاهر وهو الذي يقودنا في حياتنا وباطن وهو الذي يظهر بركود الظاهر فينتقل المرء من عالم إلى آخر وتتنبه فيه القوى الكامنة ومن ذلك الخطيب الذي لا يستطيع القول إلا بعد شرب المسكرات التي تنير دفائن الدماغ ومخزوناته والكاتب الذي لا يملي كلمة إلا بعد تناول التبغ وغيرهم كثير وقد رأيت في الموصل شاباً أعمى ومعتوهاً إلا انه بارع في علم الحساب بصورة عقلية فإذا قلت له وقعت حادثة في السابعة والعشرين من شهر أكتوبر سنة ١٤٥٠ميلادية مثلاً فمادا يكون أسم ذلك اليوم وماذا يكون إزاءه من الشهر العربي فيجيب على الفور أنه يكون اليوم الفلاني في العدد الفلاني من الشهر العربي ويسميه أيضاً ويسمي السنة التي هو فيها وكذلك رأيت مكفوفاً آخر من الموصليين في بغداد وكان غاب عنها نحو عشرين عاماً يمسك يد معارفه وهم سكوت فيقول بأسمائهم ولم يكن عرفهم قبلاً وهذا من البراهين التي تثبت خفاء العقل الظاهر وظهور الباطن فهم بحيث تتمثل لهم حوادث الأيام الماضية من لفائف أدمغتهم كما تتمثل الحوادث على لفائف الصور المتحركة فيعرفون أصدقاءهم الذين فارقوهم منذ القديم بلمس أيديهم أو رؤؤسهم أو مسك أكتافهم.